Slider
كان الحمار على حق

كان الحمار على حق

صلاح الطفي

بدأنا مقيلنا كعادتنا لحظة انفراج أسارير القات بفكاهة أضحكتنا رغم ضيقنا بواقع الحال، وكيف أصبحت دبة الغاز حلم الأسرة والمجتمع، ولحظتها علق الصديق سمير وقال: يا عم صلاح الذي يروح بدبة مليانة يزفها عيال حافتنا على مطربين!

فضحكنا وقلنا اليوم نواصل مقيلنا بعيدًا عن السياسة قريبًا للكياسة والتنفيس عن النفس!

لكنها ثورتنا المظفرة منذ بزوغ شررها بقرونها الحمراء، رابضة وسط مجالسنا، تتغذى على ترهاتنا مثلما تغذت بفلذات أكبادنا وشربت من دمنا!

وأصبحنا نقحمها أو تقتحمنا جمالها الصفر حتى في مخادعنا، فكيف لما يقرح كيف القات القاتل في مجالسنا!

وصرنا مثل الطالب الذي ﺭسب بمادة التعبير، وعند سؤال المدرس عن السبب قال كلما طلبنا منه كتابة موضوع عن العلم عن الدين عن الاقتصاد عن المنطق، يبدأ بكلمات موفقة ثم ينتقل مباشرة من صلب الموضوع إلى صلب الجمل!

طلبنا منه الكتابة عن فصل الربيع فكتب:

فصل الربيع أجمل فصول السنة، تكثر فيه المراعي الخضراء، فيتيح للجمل الشبع من تلك المراعي، ﻭﺍﻟﺠﻤﻞ ﺣﻴﻮﺍﻥ ﺑﺮﻱ يصبر على ﺍﻟﺠﻮﻉ والعطش، ويمشي على الرمل بسهولة ويسر، والبدوي يربي الجمل فهو سفينة الصحراء، يساعدهم وينقل أمتعتهم عند الترحال من منطقة لأخرى.. ويستمر الطالب في التغزل في الجمل، وينسى الموضوع الرئيسي.

فقال المدرسون موضوع الربيع وارتباطه بالرعي دفع الطالب للخروج عن الموضوع.

فقال المدرس طلبنا من الطلاب كتابة موضوع عن صناعة السيارات في اليابان فكتب صاحبنا:

تشتهر اليابان بصناعة السيارات التي يتنقلون بها بيسر، أما البدو عندنا يعتمدون على الجمل في تنقلاتهم، فالجمل ﺣﻴﻮﺍﻥ ﺑﺮﻱ ﻳﺼﺒﺮ على الجوع والعطش أيامًا طويلة.. ونفس الموال.

وعن الحاسب الآلي كتب:

 الحاسب الآلي عنوان العصر، وعليه تعتمد الشركات الكبرى، وحتى الدول، في إدارة وتنظيم أعمالها، بعكس البدو الذين يعتمدون على الجمل في كل شيء، ﻭﺍﻟﺠﻤﻞ ﺣﻴﻮﺍﻥ ﺑﺮﻱ هههه.

 وهكذا حكاية الراسب مع الجمل مثل حكايتنا مع ثورتنا التي ترعى وتتغدى وتخزن وتتعشى معنا وتنام ملء (جروحنا)!

تبكي ونبكي نكدها منذ ما سميناه عام الاستقلال والخلاص من العجوز وجندها الذين وصلوا بسياراتهم وطائراتهم وبنوا مطاراتهم بقلب ردفان قبل الثورة وهددوا الجمل (والجمل هو حيوان بري أليف يصبر على الجوع والعطش، وأهلنا في ردفان يستخدمون الجمل هههه انزلقنا).

*

أما كيف كان الحمار على حق؟ فإليكم هذه الحكاية من ردفان الثورة:

وهي قصة تواكب حماقاتنا السابقة واللاحقة لا قدر الله، ففي جلسة قات تجاذبنا الحديث النكدي عن واقع الحال، وكيف أصبح مآل الجمل والجمال!

وساعتها أتحفنا الصديق مصباح من ردفان بقصة واقعية من بواكير الدبور الجنوبي، وفي أوج الكفاح المسلح بجبهة ردفان الثورة.

ومعروف كان شريكا حرب تحرير الجنوب، جبهتي التحرير والقومية قبل التناحر البيني بيننا البين!

فقال الصديق مصباح:

كان التنافس الإيجابي بين جبهة التحرير والجبهة القومية في أوجه، وكان اثنان من رفاق النضال ومن قيادات جبهة التحرير الميدانية المشهود لهم بالشجاعة والإقدام، في مهمة ملحمية لإثبات تفوق جبهة التحرير على الجبهة القومية، وبنفسيهما قاما بالمهمة التي اعتبراها الفاصلة لتتويج نضالهما وإثبات جدارتهما، وكان ثالثهما الحمار الذي يحمل الألغام والمتفجرات لنسف المعسكر المقصود والمرصود هدفًا سانحًا لهما بحكم معرفتهما بكل شبر بمنطقتهما ردفان الثورة.

بعد منتصف الليل انطلقا من مكمنهما بكل عزيمة وثقة، بحيث يزرعان الألغام والمتفجرات حسب الخطة، وقبل طلوع الفجر، حتى لا يكتشفهما العدو.

سريا الليل، وعلى بعد كيلومتر تقريبًا من الهدف توقف الحمار عن مواصلة السير بالمتفجرات، وأصر واستكبر استكبارًا، وكأنه كان يدرك دقة الموقف الحاضر، ويستشرف المستقبل!

كان القائدان والحمار الحليم في حالة تسلل يلزم عدم رفع الصوت أو ضرب الحمار وزجره حتى لا ينكشف الأمر، ويصبح الصياد ضحية!

أكثر من ثلاث ساعات "حي حي" وحنين وأنين، حتى طلع الفجر الصادق، والحمار الصابئ أبى أن يواصل السير نحو الهدف، فاضطرا إلى حمل جزء من المتفجرات على ظهريهما، ووضعاها على عجل قبل تجهيزها، ورجعا عند الحمار القائد.

وكانت المفاجأة! الحمار الملهم عاد أدراجه إلى قبلته قبلهما!

المهم كانت هذه آخر مهمة لهما وحمارهما الذي غير سير العملية وأفسد خطتهما ووصم نضالهما بالانتكاسة، على أقل تعبير.

وكان خوفهما من أن ينفضح أمرهما أنهما وليا المهمة الأساسية حمارهما، فيوصم نضالهما "بموقعة ذات الحمار"!

وما هي إلا أشهر معدودة حتى انقلب وضع جبهات النضال، وآل النصر للجبهة القومية.

فما كان من الرفيقين اللذين افترقا بعد فشل عمليتهما، إلا أن يغادرا ردفان كل منهما نفسي نفسي، لم يعلم ثابت أين ذهب مثنى!

غابا أكثر من عشر سنوات، وكل منهما لا يعلم عن الآخر شيئًا، إلى أن التقيا في "القاهرة"، صيف 1978، بعد غدر الرفاق برفيقهم سالمين!

كان كل منهما في رحلة ترانزيت، ثابت قادم من كندا، ومثنى من أمريكا، وبالأحضان، وكل منهم نصف خواجة نعمة وحِمّارة (من الاحمرار)!

وبعد عناق حار وتجاذب حديث الساعة وكل ساعة مرت على مأساة الجنوب وأهله ورفاقهما وأهلهما، ثم تذكرا آخر عهدهما "بموقعة ذات الحمار"، فضحكا من أعماق القلب وكأنهما يستحضران لحظة افتراقهما وروح الحمار تحفهما!

قال مثنى لثابت: تذكر "ليلة الحمار"، أنا اليوم اقتنعت أن الحمار كان على حق!

فرد ثابت: حرام حنث أني مقتنع من تاك الليلة أن الحمار كان على حق!

ولعل اليوم أم الشهيد تردد قول ثابت ومثنى: "كان الحمار على حق".


طباعة   البريد الإلكتروني