محررو الإستثمار

قراءة في اسباب توسع حروب الطاقة للسيطرة على أكبر حصة
بحلول 2030 سيزداد الطلب على النفط بأكثر من مرة ونصف وسيتم تغطيته من مصادر الوقود الأحفوري
اساس الصراع ان الطلب على النفط سيكون كبيرا في الصين والهند بعدما استنفدتا احتياطاتهما، وسيتم تلبيته من الخليج واسيا الوسطى، مايجعل الدول الصناعية تتساءل: ماذا سيتبقى لنا بعد اشباع الصين والهند لحاجاتهما؟
بريطانيا التي كانت من عمالقة النفط تراجع انتاجها50٪ بسبب نضوب موارد بحر الشمال
امريكا تستهلك50% من الموارد العالمية للطاقة وتستورد كمية كبيرة من الخارج معظمها من الخليج العربي
اكتشاف الغاز والنفط في شرق البحر المتوسط في غاية الأهمية لأسواق الطاقة، لكنه نذير شؤم لشعوب المنطقة قد يفجر صراعا جديدا
إستراتيجية الاستخبارات الامريكية لعام2009 اكدت ان اشتداد الصراع الدولي على الطاقة يضر بأمنها القومي، وعلى مخابراتها ان لا تسمح بالإضرار بالمصالح الامريكية
لحماية امن الطاقة تعتمد اميركا على الحروب غير المكتملة والعقوبات والفوضى الخلاقة لكبح الصين ونهمها للطاقة، وارسال قوات ضاربة إلى أوروبا والشرق الأوسط لمجابهة النفوذ الروسي والإيراني
د. احمد محمد سميح-
جامعة عدن
عرض وتلخيص: مجلة الاستثمار
مع بداية العقد الأول من الألفية الثانية طغى موضوع "امن الطاقة وتحدياتها" على الاهتمامات الدولية، نظرا للاضطراب المستمر في أسواق الطاقة (تحديدا النفط والغاز) وتعاظم حالة عدم الاستقرار السياسي في مناطق الإنتاج الرئيسية كمنطقة الشرق الأوسط والبلدان المطلة على المضايق والممرات المائية التي تمر عبرها إمدادات النفط الخام. بعض هذه الاضطرابات وفقا للتحليلات الفنية ترتبط بآفاق تطور صناعة النفط العالمية ذاتها وبالتغيرات التي تحدث في بنيتها الهيكلية خصوصا ما يتعلق بحجم الاحتياطات العالمية واقتراب "منحنى انتاج النفط التقليدي" من النقطة الحرجة وفقا لنظريةKing Hubbert- Peak oil) ) وارتفاع كلف الإنتاج وعدم قدرة الصناعة النفطية على ضمان تدفق الخامات بأسعار رخيصة كما كان عليه الحال في معظم حقب تطور صناعة النفط العالمية في القرن العشرين، اضافة الى ذلك تأثير عوامل أخرى ترتبط بسياسات الدول المنتجة والمستهلكة وبقواعد تنظيم التجارة الدولية للنفط والغاز.. مجمل هذه التغيرات دون شك اضحت تؤثر على استقرار العلاقات الدولية وتؤجج حدة الصراعات والمنافسة العالمية على مناطق تموضع الهيدروكربونات على امتداد مختلف مناطق الانتاج وعلى خطوط الامداد وممرات العبور، في ظاهرة اعادت الى الاذهان صراع الجيوبوليتيكا بين القوى الاستعمارية الذي ساد في فترة الحربين العالميتين الأولى والثانية.
علاقة الارتباط بين صناعة النفط العالمية وامن الطاقة العالمي يمكن قراءتها من خلال عدة محاور أبرزها:
المحور الأول:
فوبيا استنضاب احتياطات النفط العالمية
أصبح العالم المعاصر اليوم يقسم الى معسكرين: احدهما يمتلك موارد طاقة زائدة عن حاجته، والاخر يعاني من نقصها وهو في اشد الحاجة لها، اي إلى موردين للطاقة ومستهلكين لها. الارقام تشير الى ان الاحتياطي العالمي المؤكد من النفط بلغ 1679.6 مليار برميل (احصاءات 2016) حصة بلدان الشرق الأوسط منه حوالي47.3% (عام1995 وصلت احتياطات الشرق الأوسط المؤكدة 58.9%) من اجمالي الاحتياطي العالمي.
في إطار المسار التاريخي لتطور صناعة النفط العالمية لوحظ ان الاحتياطيات العالمية للنفط تسجل نمواً من فترة زمنية لأخرى بفعل الاكتشافات الجديدة، لكنه نمو لا يقاس بمعدلات النمو السابقة للاحتياطات المكتشفة في المراحل الاولى لعمليات استكشاف النفط. فنمو الاحتياطات على مستوى العالم خلال العقود الأخيرة أصبح لا يعوض الكميات المستخرجة في ظل تزايد الاستهلاك العالمي الذي يسجل معدل نمو سنوي بين 1- 2,5%.
معدل الطلب على النفط عالميا وفقا لتوقعات "أوبك" سيرتفع إلى مستوى 100.98مليون برميل يوميا خلال عام2020 (في حال عدم وجود عوائق) بزيادة قدرها 1.22مليون برميل، مقارنة مع العام 2019 والبالغ99.77 مليون برميل/يوميا. وستضاعف عدد من البلدان النامية مثل الهند والمكسيك وإندونيسيا وماليزيا وفيتنام وكولومبيا والبرازيل وتركيا وبنجلادش بالإضافة إلى دول الشرق الأوسط، بشكل كبير من مساهمتها في نمو الاقتصاد العالمي، وبالتالي ستخلق طلبًا مرتفعًا على الطاقة تشير التقديرات الى أنه بحلول 2030 سيزداد بأكثر من مرة ونصف وسيتم تغطية هذا الطلب (حوالي80 ٪) من مصادر الوقود الأحفوري الغير متجددة.
التحليلات الاستراتيجية لأوضاع صناعة النفط العالمية تشير إلى تراجع كبير لإنتاج النفط في كثير من المناطق الرئيسية بسبب تراجع نمو احتياطاتها إلى أدنى مستوى لها في بداية الالفية الجديدة. فبريطانيا على سبيل المثال- والتي كانت تعد قبل خمسة عقود من عمالقة منتجي النفط سجلت حقولها النفطية تراجعا كبيرا. ففي عام 1983 بلغ إنتاج النفط فيها 115مليون طن، وفي 1999 بلغ ذروة انتاجها 137.4مليون طن. ومع ذلك، في الألفية الجديدة، بسبب نضوب قاعدة موارد بحر الشمال تغير الوضع بشكل دراماتيكي وبلغ انتاجها في عام 2006 (76.6مليون طن)، أي بنسبة تراجع 50٪ تقريبًا عما كان عليه الوضع عام1999). وهناك (12حقلاً) بريطانياً في بحر الشمال أضحت تعطي إنتاجاً لا يتجاوز 30 % من الذروة الإنتاجية التي وصلتها فيما مضى.
في هذا الاتجاه يلاحظ عدم تمكن مناطق الإنتاج في كثير من البلدان تعويض ما تم استخراجه من نفط على مدى العقود الماضية، ففي روسيا والمكسيك والنرويج وبريطانيا تراوح معدل التعويض بين15- 31% وجميعها دول تعاني من ركود عمليات الاستخراج في قطاعات النفط، مع فارق ان الولايات المتحدة تمثل حالة استثنائية من بين هذه الدول نظرا لامتلاكها احتياطات مخزونة ضخمة من النفط الصخري. ومع هذا نجد ان الحقول الجديدة ذاتها في حوض برميان (Permian Basin) كأحد أشهر الحقول المنتجة في الولايات المتحدة (تنتج الزيت التقليدي والصخر الزيتي) على مدى العقد الماضي سجلت تراجعا في انتاجيتها بشكل أسرع من الحقول القديمة.. وفقًا لـقاعدة بيانات شركة IHS Markit للمعلومات بلغ إنتاج النفط من حوض برميان في بداية 2010حوالي 880ألف برميل/ي. وبنهاية العام نفسه تراجع مستوى الإنتاج من نفس الآبار ليصل الى767ألف برميل/ي- بانخفاض أكثر من 110آلاف برميل /ي اي 13٪ من إنتاجية بداية العام.. في بداية2019 جميع آبار Permian Basin انتجت 3.8 مليون برميل /ي- ومع ذلك توقعت IHS Markit أنه في نهاية2019 ستنخفض إنتاجية الآبار بمقدار 1.5مليون برميل/ي- أي بنسبة 40٪ مقارنة ببداية العام- (هناك قاعدة أساسية في صناعة النفط مفادها انه مقابل كل برميل مستخرج ينبغي ان يقابله اكتشاف9 براميل كاحتياطي- كحد أدنى.
ظاهرة تراجع الاحتياطات العالمية للنفط التقليدي في تصاعد مستمر، فخلال الخمس السنوات الماضية تراجع الاحتياطي العالمي بنسبة0.6 ٪ (حوالي 224.6مليار طن) وتراجع بالتالي العمر الافتراضي المتوقع لعملية الاستنضاب للموارد الى 57.5 سنة مقارنة بـ 60عامًا عن عام2014.).
والجدول1 ادناه يوضح ذلك:
جدول (1)حجم الاحتياطات النفطية المؤكدة الاضخم عالميا (مليار – برميل) وسنوات الاستنضاب
الدولة الاحتياطي المؤكد فترة الاستنضاب للنفط
فنزويلا 300.9 313.9
السعودية 266 60.8
كندا 172,2 107.6
ايران 157.8 110.3
العراق 143.1 97.2
روسيا 102.4 25.5
الكويت 101.5 89.8
الامارات 97.8 68.7
الولايات المتحدة 55 11.9
ليبيا 48.4 306.8
(هذه العشر الدول تسيطر على 85% من حجم الاحتياطي العالمي المؤكد).
حاليا تنحصر المناطق المتبقية والمأمول إيجاد اكتشافات كبيرة للنفط فيها بالمناطق التالية:
1.المناطق المغمورة العميقة والعميقة جدا "مثل الساحل الغربي لإفريقيا وفي المناطق الأخدودية الرسوبية".
2.منطقة ألاسكا في أمريكا الشمالية.
3.مناطق محدودة في اليابسة لم تستكشف بعد.
4.منطقة "بحر قزوين، وعمليات استخراج النفط ونقله من هذه المنطقة إلى البحار المفتوحة ومنها إلى مناطق الاستهلاك مكلفة اقتصاديا.
5.كميات النفط التي يتم استخراجها بطرق غير تقليدية وتعتبر مكلفة اقتصاديا "مثال حقول البرتا الكندية".
6.كميات النفط المتوقع تواجدها في طبقات العمق الصخري.
7.النفط المتبقي في الطبقات المنتجة الذي لايمكن استخراجه بالوسائل الحالية ويحتاج تقنية خاصة- تقنية المستقبل.
فوبيا "نضوب" احتياطيات النفط عالميا أصبح يقابله في الجهة الأخرى ارتفاع في تكاليف عمليات الاستخراج "كلف الإنتاج". فمعظم مكامن "آبار" النفط الغنية بالخامات تم استغلالها واستنزف ما فيها من هيدروكربون وعمليات الاستخلاص الجارية في كثير منها أصبحت مكلفة اقتصاديا نظرا للأعماق السحيقة التي تتواجد بها الخامات (معظمها ابار شاخت وتتم عملية رفع الموائع فيها باستخدام أدوات الرفع الاصطناعي) خصوصا في الجزء الغربي من الكرة الأرضية وروسيا، الامر الذي يرفع من كلفة الإنتاج الحدية للبرميل الواحد. لذا فان النفقات الرأسمالية المصروفة على الآبار حاليا أصبحت تفوق كثيرا تلك النفقات التي صرفت على المكامن القديمة في بداية عهدها.
التراجع في خصوبة الابار في العديد من مناطق الإنتاج الرئيسة أصبح يقابله أيضا عجز في حجم الاستثمارات المطلوبة للاستثمار في صناعة النفط العالمية. بهذا الصدد تشير ارقام وكالة الطاقة العالمية (IEA) بان حجم الاستثمارات العالمية المطلوبة لاستنهاض القدرات الإنتاجية لصناعة النفط العالمية ستصل الى 3ترليون دولار بحلول2030 وهو المبلغ اللازم لمواكبة نمو الطلب العالمي للنفط للفترة ذاتها، أي بإنفاق استثماري يصل في المتوسط الى 103 مليار دولار سنويا. (توقعات الطلب ستصل الى 116 مليون برميل/ي بحلول 2030).
المحور الثاني:
ملامح استراتيجية أمن الطاقة العالمي
مصطلح أمن الطاقة العالمي ليس امرا جديدًا في السياسة الدولية. فالصراعات حول موارد الطاقة العالمية كانت منذ فترة طويلة ومازالت تعتبر عنصرًا مهمًا في اضابير السياسة الدولية والأمنية للقوى الكبرى، لكن هذا المصطلح أصبح اليوم يمثل واحدا من أهم عناصر "امن العالم"، بسبب محدودية موارد الطاقة غير المتجددة واختلال مناطق توزيعها عالميا.. لقد عرّف السير ونستون تشرشل- رئيس الوزراء البريطاني- حينها- مفهوم "أمن الطاقة" بانه "الحاجة إلى التنويع والوصول إلى مختلف مصادر الطاقة والموردين" وهو التعريف الذي أورده "الكتاب الأخضر" للمفوضية الأوروبية لعام 2006 حول امن الطاقة. وبناء على هذا التعريف اصبحت إستراتيجية امن الطاقة العالمي تقوم في جوهرها على التوجهات التالية:
-أولا: الاخذ بعين الاعتبار عدم توافر حصانة مؤكدة لواردات الطاقة من مناطق الإنتاج إلى مناطق الاستهلاك الرئيسية، فمعظم صادرات النفط والغاز تأتي من مناطق تمتاز بضعف الاستقرار السياسي و"ميوعة سياسية" وفوضى مجتمعية سواء أكانت هذه الصادرات تأتي من فنزويلا او من نيجيريا او من اندونيسيا او من العراق او ليبيا او ايران او حتى دول الخليج وبالتالي فان تامين امدادات الطاقة في الظروف المعاصرة أصبح يقوم على:
-إمكانية استخدام القوة الًعسكرية لتامين الإمدادات خاصة في ظروف عدم الاستقرار الشامل وقد حدث مثل هذا الأمر فعلا مع العراق في العام 2004م واحتمال حدوثه مع إيران حاليا.
-تامين الدعم السياسي للأنظمة الحاكمة وتوسيع تجارة السلاح معها وجعلها دوما تحت حماية "المظلة" الأمريكية كما هو الحال مع كثير من بلدان الشرق الأوسط الغنية بمصادر الطاقة.
ثانيا: جوهر استراتيجية "امن الطاقة" يقوم على أساس تامين إمدادات كافية من الطاقة تتوافق مع تزايد الطلب وبأسعار مقبولة وفقا لقانون العرض والطلب في السوق، مع الأخذ بعين الاعتبار "محدودية" مصادر العرض من الطاقة وتزايد الطلب عليها كأساس "لآلية الأسعار".
ثالثا: أصبح امن الطاقة كمفهوم استراتيجي يركز على التهديدات المتصاعدة "لأمن البيئة" ذات الصلة بقطاع الطاقة نفسه وعلى درء مخاطر التخريب المتعمد والإضرار بخطوط نقل الغاز والنفط وكذلك السدود المائية "المولدة" للطاقة الكهربائية ومحطات توليد الكهرباء والمحطات النووية وغيرها من عناصر منظومة البنية التحتية الخاصة بالطاقة. فالبنية التحتية لقطاع الطاقة تعتبر الحلقة الاضعف في أي مجتمع نظرا لحساسيتها وقوة تأثيرها على حياة الناس في داخل الدولة وخارجها. فمحطات الطاقة النووية والكهربائية ونظم الامداد الطاقوي تعد الأكثر عرضة للعمليات الإرهابية والنزاعات العسكرية والكوارث سواء من البحر أو الجو أو البر. (يصل عدد الهجمات الإرهابية على البنية التحتية لا سيما في شمال أفريقيا والشرق الأوسط الى350 حادثًا سنويًا).
بهذا الصدد تشير وثيقة الأمن القومي الامريكي لعام2010 الصادرة عن الرئيس الأمريكي اوباما إلى أن "الوصول الى مصادر الطاقة أمر بالغ الحيوية للمصالح الأمريكية ولتحقيق هذا الهدف ينبغي تنويع مصادر الحصول عليها وعلى وجهات صادراتها". وبغض النظر عن الأهداف المعلنة للحكومات الأمريكية المتعاقبة بتخفيض الاعتماد على مصادر الوقود الاحفوري إلا ان مثل هذا الهدف يظل صعب المنال على مدى ال 50 سنة القادمة. فالولايات المتحدة التي لا تمثل سوى 5% من سكان العالم تستهلك 50% من الموارد العالمية للطاقة وحوالي 25% من الإنتاج العالمي للمشتقات النفطية ويشارك اقتصادها بأكثر من 20% من الناتج الإجمالي العالمي وتعتبر من أكبر مستهلكي الطاقة وتضطر إلى استيراد كمية كبيرة من الخارج وبشكل أساسي من منطقة الخليج العربي (تستورد 20مليار دولار من النفط شهريا- وقيمة وارداتها الشهرية استمرت بالارتفاع حتى يوليو 2008 وصلت إلى40 مليار بسبب الارتفاع الحاد بأسعار النفط في النصف الأول من عام2008).
البحث عن مناطق جديدة غنية بالهيدروكربونات أصبح هدفا محوريا في استراتيجية امن الطاقة الامريكية ولتحقيق هذا الهدف تعمل الولايات المتحدة على تعزيز أذرعها الاقتصادية عبر دعم وتعزيز نفوذ شركاتها النفطية للاستثمار في مختلف بقاع العالم لضمان سد احتياجاتها من النفط في الحاضر والمستقبل، مستخدمة في ذلك كل الوسائل الممكنة لتامين التدفق المستمر للنفط وبأسعار "ملائمة جدا". (تركز الشركات النفطية الامريكية حاليا على مناطق غرب افريقيا) كذلك تشترط استراتيجية امن الطاقة العالمي من منظور الامن القومي الأمريكي ضمان أسواق طاقة مستقرة عالميا على المدى الطويل مع توفر قدرات لوجستية عالية تمتلك نظاما لا مركزيا كفؤاً لنقل الطاقة عبر المضايق والممرات المائية والبحار المفتوحة او عبر انابيب النقل وبتكاليف منخفضة.. وثيقة "سياسة الدفاع كل أربع سنوات"، التي نشرت في فبراير 2010 من قبل وزارة الدفاع الأمريكية حددت أربع محاور رئيسية لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي في مجال امن الطاقة هي:
-ضمان الأمن القومي للولايات المتحدة- تدعيم القدرات الدفاعية- ضمان امن البنية الصناعية للبلاد- ضمان امن الأصدقاء والحلفاء والدفاع عن "امن الطاقة" الخاص بهم.
لهذا الغرض شرعت القوات المسلحة الأميركية في التحول تدريجيا إلى ضامن لأمن موارد الطاقة، والأهمية الحاسمة في هذا التحول ليس السيطرة الجغرافية المباشرة على المناطق بل تعزيز السيطرة الاقتصادية على مقدراتها وخصوصا موارد النفط والبني التحتية لصناعة النفط والغاز.. في تقريرها المقدم أمام جلسة استماع لجنة العلاقات الخارجية في 15 يوليو 2009 أكدت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون- حينها- بان أحد الأهداف الأربعة التي تشارك فيها القوات المسلحة الأميركية في الشرق الأوسط، هي" ضمان أمن الطاقة".
القناعات المتداولة في الدوائر السياسية والمعتمدة في الوثائق الرسمية الامريكية حتى وان بدت قناعات معبر عنها بعبارات مبسطة وأحيانا "بنوتة ساذجة" إلا أنها تشكل محوراً لعمل الأجهزة المخابراتية في إطار ما بات يُعرف اليوم بمصطلح "حروب الطاقة او المنافسة على مصادر الطاقة". بهذا الصدد اشار مكتب جهاز المخابرات القومي الأمريكي في تقريره "إستراتيجية الاستخبارات الوطنية" لعام 2009 ان اشتداد الصراع والتنافس على الطاقة يمكن له ان يضر بالأمن القومي الأمريكي لان كثيراً من الدول تسعى للوصول الى مصادر الطاقة وخطوط إمداداتها، وعلى المخابرات ان لا تسمح بالإضرار بالمصالح الامريكية وأن تعمل على وجه السرعة مع الخبراء في مجال امن الطاقة للحصول المستمر على المعلومات الحساسة في هذا الجانب.
كما انه من المهم الاشارة هنا الى التقرير المخابراتي المشترك الصادر عن مجلس الأمن القومي الامريكي ووكالة المخابرات المركزية الامريكية بعنوان (الاتجاهات العالمية لعالم متغير-2025) الذي عبر عن وجهة نظر القيادة السياسية والعسكرية الأمريكية تجاه مسألة استخدام القوة العسكرية المباشرة من اجل تامين "امن الطاقة العالمي": حيث يشير التقرير الى السيناريوهات المحتملة لتطور الصراع العالمي في المدى المنظور والطويل بشان "امن الطاقة"، واكد على احتمالية اشتداد الصراع العالمي للوصول لمناطق انتاج الطاقة. واشار التقرير انه بحلول2025 سيتحول مركز ثقل الاقتصاد العالمي تدريجيا بتجاه الشرق (الصين والهند) وسيكون هناك صعود تدريجي لقوة روسيا وايران وهناك احتمال لان يصبح العالم متعدد الاقطاب.
وبحسب التقرير فإن السنوات العشرين المقبلة ستكون محفوفة بالمخاطر مع عملية انتقال المجتمع البشري إلى النظام الجديد متعدد الأقطاب ومن المحتمل أن تدور الخصومات الإستراتيجية حول التجارة والاستثمار والتقنيات الجديدة وعمليات الاستحواذ، ولا يستبعد تكرار سيناريو القرن التاسع عشر بسباق التسلح والاستيلاء على الأراضي والمنافسات العسكرية. التقرير أشار الى ان مجموع الناتج الإجمالي لدول "البركست- الصين وروسيا- البرازيل- الهند خلال الفترة ما بين 2040-2050م سيصل تقريبا الى مصاف الناتج الإجمالي للدول السبع الصناعية الكبرى. وعلى مدى العشرين سنة القادمة ستحدث الصين تغيرات غير مسبوقة على جميع دول العالم أكثر من أي قوة اقتصادية أخرى وستتربع على عرش الاقتصاد العالمي كثاني اقتصاد وهناك احتمال كبير لتفوقها العسكري المطلق على كثير من الدول المتقدمة وستتحول الى أكبر مستورد لمختلف أنواع الطاقة وستكون الملوث الأول للبيئة على نطاق العالم.
كما يشير التقرير الى احتمال صعود التأثير السياسي والاقتصادي لدول محورية (كتركيا وإيران وإندونيسيا بحلول عام 2025). لقد أصبح محور سياسات الطاقة يقوم اليوم في السياق الجيوسياسي ليس فقط على الهيمنة شبه المباشرة على مناطق الإنتاج، بل يتعدى الامر ذلك الى فرض الرقابة الدائمة على خطوط النقل والامداد والممرات المائية التي تعبر من خلالها امدادات الطاقة.. لذا فانه في إطار هذا المسار تركز الولايات المتحدة على تطور القدرات العسكرية لكل من الصين والهند وتطور تجارة السلاح وبناء سفن المحيطات فيهما. فالصين تهتم ببناء أسطولها الحربي كضرورة من ضرورات تحقيق أحلامها الوطنية المتمثلة في التوسع الاقتصادي وبناء الاقتصاد الموجه نحو التصدير وحماية الطرق التي تستورد البلاد عبرها حاجاتها من موارد الخام. في هذا الجانب اخذ الصراع مع الصين يتمحور بدرجة رئيسية حول "جيوبولتيكا الممرات وخطوط نقل الطاقة " ونقاط "العبور" وتركز الولايات المتحدة اهتماماتها على الدول التي تمر عبرها "الأنابيب والناقلات العملاقة" لإحكام سيطرتها ومراقبة الامدادات الى مناطق الاستهلاك الأخرى. (فمثلا يمر أكثر من 80٪ من إمدادات النفط إلى اليابان وكوريا، بالإضافة إلى نصف الإمدادات إلى الصين عبر مضيق ملقه الواقع بين إندونيسيا وماليزيا) وتقوم البحرية الأمريكية بحراسة هذا الممر المائي، فيما الصين ودول أخرى في الإقليم الشرق أسيوي التي تعتمد على الاستيراد من الشرق الأوسط، تنظر للدور البحري الأمريكي المهيمن بتوجس وقلق كبير.
حماية امن الطاقة من منظور الولايات المتحدة "يعتمد بالدرجة الرئيسية على تطوير استراتيجيات متنوعة مثل تبني استراتيجيات تكتيكية تحت مسمى "الحروب غير المكتملة" التي تعتقد انها قد تساعد في كبح جماح الصين ونهمها المتزايد للطاقة وتعيق مشروعاتها الاستثمارية في مناطق تموضع الهيدروكربونات خصوصا في مناطق الإنتاج الرئيسة، كما تتضمن هذه الاستراتيجية ارسال قوات إلى وسط وشرق أوروبا لمجابهة النفوذ الروسي المهيمن على السوق الأوربي للطاقة واضعاف تطلعات روسيا في البلقان، ناهيك عن تطلعاتها تجاه جيرانها في الفضاء السوفيتي السابق، وكذا نقل قوات ضاربة إلى الشرق الأوسط. لمواجهة التهديدات المتزايدة لإيران. كما تقوم الولايات المتحدة بتطوير استراتيجيات طويلة الامد مثل استراتيجية "الدفاع المتقدم" لحماية امن حلفائها وامن الطاقة الخاص بهم بنشر قوات ردع متقدمة تمتد من محيط الجزر اليابانية حتى الفلبين لاحتواء تحركات التنين الصيني في المحيط الهادئ وتقوم بتوسيع تعاونها مع فيتنام ونصب أنظمة الدفاع الصاروخي في كوريا الجنوبية لكبح كوريا الشمالية وانتهاج سياسات الاحتواء الاقتصادي عبر العقوبات والمقاطعة والضغوط الاقتصادية ونهج الفوضى الخلاقة في كثير من المناطق التي تشكل اهمية حيوية لمصالحها.
المحور الثالث:
الشرق الأوسط واستراتيجية امن الطاقة العالمي
يمثل الشرق الأوسط المنطقة الحساسة الاهم لأمن الطاقة العالمي ولأمن الطاقة الخاص بالولايات المتحدة والدول الغربية الاخرى.. الولايات المتحدة تعتمد منظومة متكاملة من التدابير السياسية والعسكرية والاقتصادية والأمنية "لضمان مصالحها في هذا الاقليم الذي يستحوذ على 35% من إجمالي الإنتاج العالمي للنفط وفقا لإحصاءات شركةBP لعام 2016.وحوالي 47.3% من حجم الاحتياطات النفطية المؤكدة عالميا، إضافة الى 60% من الاحتياطات العالمية للغاز الطبيعي (إيران والسعودية وقطر) بمشاركة روسيا الاتحادية.. يتوقع الخبراء الاستراتيجيون ان يكون الشرق الأوسط المنطقة الأكثر تعرضا لمخاطر حرب شاملة، نظرا لتوسع المجابهة فيه بين العديد من الدول الكبرى. فالنزاعات المسلحة المستمرة في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وخطر المواجهة المحتملة للدول العربية مع إيران او مع تركيا والتحالف الإيراني- التركي ضد الأكراد، ووجود القوات الأجنبية الأمريكية والروسية وقوات التحالف الدولي وقتالهما في سوريا والعراق و ليبيا- كلها وقائع تشير الى ان هذه الحروب تدار للدفاع عن المصالح الحيوية لهذه الدول، وهي صراعات بحسب بعض التوقعات يمكن لها ان تتحول الى حروب مفتوحة في المنطقة بمشاركة مباشرة من القوى العظمى ذاتها، خصوصا في حال حدوث تهديد حقيقي مباشر للمصالح الحيوية للأطراف الفاعلة.
خلافا للحرب المعلوماتية وحروب العملات والحروب التجارية، فان حروب الطاقة ستسفك فيها دماء كثيرة. وبهذا الشأن تركز الولايات المتحدة في إطار توجهاتها الاستراتيجية لأمن الطاقة على خصومها الاستراتيجيين (الصين وروسيا- بدرجة رئيسية) وتحاول اضعاف نفوذهما في المنطقة وتعمل على تامين سلامة امن الملاحة للمعابر الدولية الرئيسية التي تمر عبرها امدادات النفط وابعاد الصين تحديدا عن المخزونات الاستراتيجية لموارد الطاقة في المنطقة.. الحاجة المتزايدة لكافة اشكال الطاقة "أسهم في إطلاق سباق كوني تقوده الدول الصناعية وشركاتها النفطية للوصول الى المناطق التي مازالت متخمة بالموارد" وذلك في إطار ما أصبح يعرف باستراتيجية "تسييس قطاع الطاقة العالمي" كمتطلب حيوي لأمنها القومي". وتوظف في ذلك كل إمكاناتها الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية لتامين مصالحها في مناطق الانتاج الرئيسية (خصوصا منطقة الشرق الأوسط ومحيط بحر قزوين وفنزويلا- وهناك أكثر من53 قاعدة عسكرية أمريكية تنتشر على مساحة الشرق الأوسط وغرب اسيا واسيا الوسطى). وتتبع الولايات المتحدة في صراعها على مناطق تموضع مصادر الطاقة في الشرق الأوسط سياسة الاحتواء السياسي والعسكري القائمة على نشر القوات العسكرية وزيادة الإنفاق العسكري وتعزيز نهج "العسكرة وسباق التسلح الكوني".. وفقا لنشرة المعهد الدولي لدراسة المشاكل العالمية في ستوكهولم (SIPRI) الصادرة في ابريل 2019 ارتفع الإنفاق العسكري العالمي في عام 2018 إلى 1822 مليار دولار وهو ما يزيد بنسبة 2.6٪ عن عام2017 واحتلت الولايات المتحدة الأمريكية والصين والمملكة العربية السعودية والهند وفرنسا المراتب الخمس الأولى بمعدل60٪ من اجمالي الإنفاق العسكري العالمي. وتصاعد الإنفاق الأمريكي للمرة الأولى منذ عام 2010، بينما سجل الإنفاق العسكري للصين تصاعدا سنويا على مدى الأربع والعشرين سنة الماضية على التوالي.. تقديرات النفقات العسكرية المباشرة للولايات المتحدة في عام 2020ستصل الى 750مليار دولار مقابل 642.9 مليار عام 2017 وهو رقم يفوق ميزانية الانفاق العسكري لروسيا الاتحادية ب16مرة (47 مليار دولار لروسيا عام2017، و50.9 مليار للسعودية عام2017).
ان ما يميز ظاهرة "التسييس" لقطاع الطاقة العالمي في الظروف المعاصرة هو تراجع استخدام الوسائل الدبلوماسية والسياسية في إدارة الصراع على موارد الطاقة وتحولها في اتجاه استخدام او التهديد باستخدام "القوة" لحل مشكلات تأمين مناطق الانتاج ومعابر الامدادات. بهذا الصدد في ديسمبر2017 وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على وثيقة القيم العليا للأمن القومي "إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي"، والتي هدفت للحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة واستعادة الميزة التنافسية للاقتصاد الامريكي، وتبنيها لمبدأ "السلام من خلال القوة" في العلاقات الدولية (يمكن فهم الحرب التجارية الأخيرة مع الصين والضربة لإيران في إطار هذا المبدأ). هذه الوثيقة المكونة من 55 صفحة هي الأكثر ضخامة مقارنة بجميع الإصدارات السابقة لاستراتيجية الامن القومي الامريكي، واعتمدت هذه الاستراتيجية خمسة أسس تقوم على التالي:
- حماية المواطنين وأراضي البلد، وكذلك طريقة الحياة الأمريكية- تعزيز الرخاء الاقتصادي للبلد- ضمان السلام من خلال القوة- تعزيز النفوذ الأمريكي- اتباع استراتيجيات السياق الإقليمي.
وتشير الاستراتيجية الى ان الحروب التجارية والصراع على أسواق الطاقة والأزمات والصراعات المسلحة وانتهاج سياسات الحظر والعقوبات ستظل على جدول اعمال الحكومة الامريكية لسنوات عديدة. وفي إطار توجهاتها الاستراتيجية تجاه دول الإقليم تعمل الولايات المتحدة على توثيق تعاونها مع السعودية كأحد أكبر منتجي النفط في العالم. حيث عملت على مدى العقود الماضية على ضمان امن "المملكة" من خلال تحديث بنيتها الاقتصادية وتزويدها بمختلف أنواع الأسلحة والدعم السياسي وربط تطور صناعاتها النفطية بالتكنولوجيا الأمريكية مقابل حصول الولايات المتحدة على النفط بأسعار "مناسبة" وضمان استثمار السعودية لعوائدها النفطية في السوق الأمريكية بشراء سندات الخزانة الأمريكية و"ارساء عقود شراء التقنيات" على الشركات الامريكية (هناك صناديق سيادية لدول الخليج تتجاوز أموالها 2 تريليون دولار تستثمر في البنوك الامريكية والاوربية في سندات واذون الخزانة الصادرة عن الدول الصناعية السبع).
التعامل مع العراق كأحد المنتجين الرئيسيين للنفط اختلف بعض الشيء في إطار التوجهات الاستراتيجية للولايات المتحدة حيث عملت الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها باستخدام القوة المباشرة لتعزيز حضورها في العراق الذي يستحوذ على احتياطات ضخمة من النفط "خامس احتياطي عالمي حاليا" باتباعها إستراتيجية "الاحتواء" التي صاغها "وزير الدفاع الأمريكي- حينها- ديك تشيني بوضع العراق تحت الرقابة الأمريكية الدائمة خصوصا مناطق إنتاج النفط. لقد كان من نتائج العملية العسكرية الامريكية في العراق تعزيز الوجود الأمريكي في منطقة الخليج ومضيق هرمز وأفغانستان وكذا في بلدان أسيا الوسطى و"تقييد" التطلعات الصينية للوصول الى مناطق الاحتياطات الرئيسية للهيدروكربونات في هذ المناطق. (تستثمر الولايات المتحدة حاليا وبالشراكة مع الشركات الغربية حوالي 50مليار دولار في حقول النفط العراقية في مناطقه الجنوبية).. وصاحب سياسة التموضع الكبير للولايات المتحدة في المنطقة بعد الاحتلال المباشر للعراق بروز ظاهرة تفتيت "السيادة الوطنية للدول "في المنطقة وانتشار الفوضى في أكثر من بلد والإرهاب المدعوم مخابراتيا من أطراف دولية عدة لتبرير عملية التموضع قرب مناطق الإنتاج الرئيسة.
وبخصوص الاستراتيجية الامريكية تجاه إيران كإحدى الدول الشرق اوسطية فإنها هي الأخرى تقوم على التصادم والمواجهة، شأنها شأن المواجهة مع العراق قبل سقوط نظام صدام حسين، حيث تميزت العلاقة الامريكية- الايرانية بالتوتر المتصاعد خصوصا منذ العام 1979مع نجاح الثورة الخمينية في إيران. فإيران تعتبر قوة إقليمية في المنطقة تمتلك قدرات عسكرية واقتصادية كبيرة وتسيطر على احتياطات ضخمة من الهيدروكربونات وتعتبر البلد الاكثر "ازعاجا" للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.. الهدف الحقيقي للاستراتيجية الامريكية تجاه إيران لا يكمن فقط في حماية مصادر الطاقة لدول المنطقة من "التمدد" الإيراني، بل ان أهدافها الاستراتيجية تختزل الحلم الامريكي للتغلغل صوب موارد إيران النفطية والغازية ذاتها و"تجييرها" لصالح الدول والشركات الغربية وتجديد أحلام الشركات البريطانية والامريكية في الهيمنة على نفط بلاد فارس كما كان عليه الحال في فترة ما قبل الانقلاب على حكومة مُصدّق في خمسينات القرن الماضي، وإبعاد أي طرف آخر يمكنه منافسة الشركات الغربية المتعددة الجنسية في السيطرة والوصول إلى هذه الموارد.. (إيران – تمتلك رابع احتياطي عالمي) كما تمتلك ثاني احتياطي عالمي من الغاز بعد روسيا وخصوصا حقل الافشور فارس الجنوبي (191 ترليون متر مكعب).
وفي هذا المنحى تسعى الولايات المتحدة لإبعاد كل من الصين والهند تحديدا عن هذا الإقليم وإعاقة مشروعات مد "أنابيب نقل الغاز" من إيران الى الهند.. وقد شرعت الحكومة الامريكية منذ عام 1996بتبني نظام العقوبات ضد إيران بإصدار عقوبات على أي شركة أجنبية تستثمر أكثر من 20مليون دولار في الاقتصاد الايراني.
السياسات التي تتبعها ايران في مجال الطاقة غير مقبولة من وجهة نظر واشنطن، كما ان سياساتها التوسعية تجاه دول الجوار خصوصا تلك المتعلقة بمحاولاتها المستمرة لتصدير "ثورتها الخمينية" وخلق الفوضى المستمرة وتطوير ترسانتها العسكرية وتحديث برنامجها النووي جميعها في المجمل سياسات غير مقبولة من وجهة النظر الامريكية والاوربية ودول الإقليم وتزيد من حالة الاحتقان والصراع وبالتالي تمثل مصدر تهديد لأمن الطاقة في منطقة الخليج وللمصالح الغربية بصورة مباشرة، الامر الذي يدفع دوما الدول الغربية لانتهاج سياسة الاحتواء الاستراتيجي لإيران بفرضها مزيداً من القيود والعقوبات الاقتصادية لاحتواء تطلعاتها الإقليمية.
غاز شرق المتوسط.. حرب الطاقة القادمة
هناك بوادر لنشوء صراع جديد اخر متفجر في الشرق الأوسط يرتبط بالموارد النفطية والغازية المكتشفة حديثا في شرق البحر الابيض المتوسط (مصر وإسرائيل ولبنان وسوريا وقبرص- اليونان). تجليات هذا الصراع بدأت تظهر بين عامي 2007- 2008مع تلك المعلومات المؤكدة لتوافر احتياطيات كبيرة من الهيدروكربونات في الجرف البحري في شرق البحر المتوسط.. أكثر المناطق الواعدة والمستكشفة تقع على امتداد سواحل بلاد الشام بمساحة تقدر ب 83 ألف متر مربع.، ويقع جزء منها في اليابسة والجزء الاخر في مياه المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر وإسرائيل وفلسطين ولبنان وسوريا. التوقعات اشارت الى ان احتياطيات النفط في أعماق المنطقة المكتشفة يصل إلى 1.7 مليار برميل نفط، فيما بلغ احتياطي الغاز 3.5 تريليون متر مكعب.
في عام 2009، قبالة ساحل إسرائيل تم اكتشاف حقل تمار باحتياطيات تقدر بـ 280 مليار متر مكعب، ثم حقل ليفاثان 620 مليار متر مكعب.، تبعه في عام 2011 اكتشاف أول حقل كبير للغاز (حقل أفروديت) في الجهة المقابلة للساحل السوري في الجرف القبرصي باحتياطات تقدر بنحو 200 مليار متر مكعب. وفي عام 2015 تمكنت مصر هي الأخرى من اكتشاف أحد أكبر حقولها في المنطقة الاقتصادية الخاصة بها "حقل ظهر" باحتياطات تصل الى 850 مليار متر مكعب بمشاركة شركات Eni و BP وشركة النفط الروسية "Rosneft". هذه الاكتشافات الضخمة والغير متوقعة دفعت شركات الطاقة العالمية الامريكية والاوربية للتنافس للحصول على جزء من الموارد المكتشفة في إطار توجه استراتيجي لكسر احتكار روسيا وهيمنتها على سوق الغاز الأوربي القريب من الاحواض المكتشفة واضعاف تأثير موسكو بصورة تدريجية في أسواق كبار مستهلكي الغاز الطبيعي في جنوب اوربا (إيطاليا وفرنسا وإسبانيا) ومنافسة امدادات خطوطها الاخرى في الشمال الأوربي التي تمد المانيا بحوالي 75. %من احتياجاتها من الغاز الطبيعي.
تقوم الشركات الامريكية مثل إكسون موبيل ونوبل للطاقة بالاستثمار في الحقول المكتشفة (شركة نوبل للطاقة، مستثمر رئيس مع إسرائيل في حقل ليفياثان). وتستثمر هذه الشركات على قدم المساواة مع شركة توتال الفرنسيةTotal وENI الايطالية بالقرب من جزيرة كريت اليونانية في نطاق احتياطات ضخمة من الغاز تتراوح ما بين 170 و230 مليار متر مكعب. هذا التعاون المشترك لتحالف الشركات اثار حفيظة الاتراك واضاف توترا جديدا في العلاقات اليونانية التركية المتوترة تقليديًا.
هناك احتمال كبير لصدام مسلح بين تركيا والدول المتشاطئة مع مناطق الاكتشافات في شرق المتوسط (قبرص واليونان ومصر) حيث تسعى تركيا للحصول على جزء من الموارد المكتشفة من خلال إعادة ترسيم خارطة شرق المتوسط بفرض سياسة الامر الواقع واعتمادها ممرا مائيا يوسع منطقتها الاقتصادية وصولا الى الساحل الليبي في تعارض شديد مع جيرانها ورفض اوربي- امريكي لخطواتها الانفرادية. (تدعي تركيا أن حدودها البحرية تتقاطع في المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص وتشمل بعض حقول الغاز فيها، وتتقاطع على امتداد المنطقة الاقتصادية لمصر في حقل "ظهر" وهو ما ترفضه مصر، كما ان الاتفاقية الموقعة مؤخرا مع ليبيا تقطع المياه الإقليمية لليونان وقبرص وتلقي بظلال من الشك على مطالبات الدولتين بأي حقول غاز في مناطقهما).
هناك مخاوف جدية بانزلاق (تركيا واليونان) الى حرب حول قبرص، في إعادة لسيناريو الحرب المفتوحة بينهما عام 1974، ولكن هذه المر ة بانخراط أكثر من طرف فيها.. في صيف عام1974 أثناء الأزمة السياسية في اليونان غزت الوحدات العسكرية التركية جزيرة قبرص وسيطرت على جزء كبير من أراضيها وتم إعلان الجمهورية التركية لشمال قبرص (TRNC)، التي لم يعترف بها سوى أنقرة.. اكتشاف الغاز في مياه المنطقة الحصرية بقبرص وتوقيع اتفاقيات بشأن ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل ومصر اثار انزعاج انقرة التي اعتبرت تلك الاتفاقات غير قانونية وتضر بمصالح سكان جمهورية قبرص التركية" جمهورية شمال قبرص". سيما بعد ان تمكنت كل من مصر وقبرص واليونان من ترسيم مناطق النفوذ الاقتصادي بين كل منها في عام 2013. وايجاد القاعدة التشريعية والقانونية للمشروعات المقامة في المنطقة والتي اسهمت في جذب الاستثمار الأجنبي واكتشاف حقل "ظهر" المصري عام 2015.
الرفض التركي للاتفاقات الموقعة بين الدول الثلاث تم التعبير عنه بإبرام اتفاق مع حكومة السراج في ليبيا وتعطيل عمليات الاستثمار في المناطق المتنازع عليها. وتتلقى انقرة في خطواتها هذه دعما ضمنيا من "روسيا" التي تجتهد في حماية مصالحها الاقتصادية في هذه المنطقة الواقعة بالقرب من أسواق كبار مستهلكي الغاز الروسي.. موسكو تسعى من خلال دعمها لتركيا الى التموضع أيضا في ليبيا للاستثمار في قطاع النفط الليبي واقتطاع جزء من موارد ليبيا لصالح شركاتها (احتياطي ليبيا يبلغ 48مليار برميل مؤكد)، وتحاول في مساعيها السياسية احتواء الجنرال المتقاعد حفتر في صراعه مع تركيا ومع حكومة السراج وخلق توازن لمصالحها مع الطرفين وتامين حضورها في شرق المتوسط كلاعب أساسي. وتتبع موسكو سياسة برغماتية مع جميع الأطراف في المنطقة. فهي تتوافق مع تركيا في ملف غاز شرق المتوسط.. وتهتم كثيرا بتحويل تركيا الى مركز عبور للغاز الروسي الى اوربا من البوابة الجنوبية وكذا تتوافق معها في بعض جوانب الملف السوري، الا انها لا تميل للموقف التركي كثيرا تجاه الصراع في ليبيا وتجاه الجنرال المتقاعد خليفة حفتر ومواقفه من حكومة السراج الحليف الاستراتيجي لتركيا.
السياسات التركية في الشرق الأوسط أصبحت هي الأخرى تحاكي الى حد كبير سياسات إيران فيما يتعلق بتصدير الفوضى للمنطقة والسعي للحصول على موطئ قدم في مناطق الثروات ومناطق العبور الاستراتيجية. فحزب العدالة والتنمية التركي يحاول جاهدا إعادة صياغة استراتيجية تركيا في المنطقة بتبني فكرة إعادة احياء مشروع الخلافة العثمانية الإسلامية وإعادة شعوب المشرق العربي وصولا الى الشعوب التركستانية في اسيا الوسطى وبعض أجزاء شرق اسيا الى الحاضنة العثمانية الجديدة وهو المشروع الذي اضمحل في عشرينيات القرن الماضي باتفاقيات "سان ريمو" 1920 و "لوزان" 1923م بعد هزيمة احفاد ارطغرل في الحرب العالمية الاولى. فتركيا المعاصرة مازالت تدغدغها مشاعر العودة والحنين الى مناطق نفوذها في المشرق العربي الغنية بالموارد والتي حرمت منها بعد اتفاقية لوزان وتقسيم ولاياتها العثمانية وتوزيعها بين المنتصرين في الحرب في إطار ما أصبح يعرف تاريخيا بتوزيع تركة الرجل "المريض".
هناك تأكيدات اشارت الى ان من أسباب التدخل العسكري التركي في سوريا عام 2012م كان رغبة انقرة في الوصول إلى مياه المنطقة الاقتصادية الخاصة بسوريا لاستثمار الاحتياطات الكبيرة للغاز هناك. فأنقرة تعتبر شرق البحر المتوسط منطقة نفوذها وتعلن دوما عن استعدادها لحماية مصالحها فيه بكل السبل بما في ذلك استخدام التدابير العسكرية. هذا السلوك من جانب تركيا يلقى معارضة شديدة من جانب مصر التي ترى ان سلوك تركيا يتعارض مع مصالح مصر القومية في شرق المتوسط وترى مصر في حقول الغاز المكتشفة عنصرا استراتيجيا لأمنها القومي وسيادتها الوطنية.. لذلك، في مقابل التصريحات التركية تصرح القاهرة دوما بان مصر هي الأخرى على أهبة الاستعداد للدفاع عن مصالحها في البحر الأبيض المتوسط بكل السبل الممكنة. وهذا ما أكد عليه في أوائل فبراير 2018 المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية المصرية الذي أكد ان جمهورية مصر العربية ستعمل على "إيقاف أي محاولة لانتهاك أو تقييد حقوق مصر في هذا المجال". وتبع هذا التأكيد بأيام قليلة قيام مصر بمناورات بحرية ضخمة في استعراض للقوة، سيما وان هناك أجواء عدائية تسود العلاقات بين الزعماء السياسيين في الدولتين.. وفي إطار هذا المسار تعمل مصر على احتواء التطلعات التركية في ليبيا وفي المنطقة الاقتصادية في شرق المتوسط من خلال دعم قوات المشير حفتر في مواجهاته مع حكومة السراج وتعزيز تفاهماتها مع اليونان وقبرص وإسرائيل.
الاهتمام بالاكتشافات في شرق المتوسط ازداد، نظرا لتماس منطقة الاكتشافات في شرق المتوسط مع اوربا وهذه ميزة يترتب عنها انخفاض في كلفة نقل الغاز عبر الانابيب الى الأسواق الاوربية (إيطاليا وفرنسا وإسبانيا بدرجة أقل) وهو امر يزعج موسكو في احكام سيطرتها المطلقة على أسواق الغاز الاوربية. هناك احتمال كبير بانخراط روسيا في مشاريع عسكرية واحلاف لحماية مصالحها في شرق المتوسط "التحالف البراغماتي مع تركيا" لعرقلة مد انابيب نقل جديدة من مناطق شرق المتوسط في اتجاه اوربا (اعتبارا من بداية السنة الجديدة 2020م تم الشروع ببناء خط مشترك بين إسرائيل واليونان وقبرص لنقل الغاز من شرق البحر المتوسط إلى أوروبا، وسيربط الخط الحقل الإسرائيلي "ليفياثان" مع "أفروديت" القبرصي وحقول الغاز الأخرى في المنطقة إلى مدينة "برينديزي" الايطالية وهذا الخط يثير حفيظة موسكو).
كما ان ارتفاع حدة التوتر في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا بسبب احداث أوكرانيا2014: يعد سببا اخر في زيادة اهتمام الاتحاد الأوربي بثروات شرق المتوسط. فمن وجهة نظر العديد من السياسيين الأوروبيين تساعد الاكتشافات في شرق المتوسط دول الاتحاد الأوربي في الضغط على موسكو بشأن ملف أوكرانيا من جهة والحد كذلك من سطوة شركة الغاز الروسية "غاز بروم" على سوق الغاز الأوربي من جهة أخرى وارتفاع حصة صادراتها على حساب دول شرق المتوسط.
يلاحظ في افاق تطور الصراع في هذه المنطقة الحيوية لأمن الطاقة العالمي انخراط واسع للشركات الامريكية للاستثمار في الحقول المكتشفة وتقدم الحكومة الامريكية مختلف اشكال الدعم للدول الحليفة لها في شرق المتوسط (إسرائيل واليونان وقبرص) بما في ذلك تقديم الدعم العسكري المباشر الذي يعزز التواجد الأمريكي في الإقليم ويحمي مصالح الشركات الامريكية واستثماراتها. بهذا الخصوص أقر الكونجرس تشريعات في (ديسمبر2019) بإنفاق 1.4 تريليون دولار لتعزيز حضور الولايات المتحدة في السوق الإقليمية الأورو-متوسطية وتعزيز الشراكة مع دول شرق المتوسط في قطاعي الطاقة والأمن. ويقضي التشريع الأمريكي الجديد بتقديم الدعم العسكري لليونان ورفع حظر توريد الأسلحة المفروض على قبرص منذ 40عامًا كإجراء احترازي يعزز قوة الردع لليونان وقبرص في وجه التطلعات والطموح التركي في المنطقة.
وتسعى الولايات المتحدة الى وضع موطئ قدم لصادراتها من الغاز المسال الى اوربا واقتطاع جزء من السوق الاوربية لصالح شركاتها بالاستثمار في الحقول المكتشفة والقيام بدعم صادرات الغاز من المناطق الأخرى الى اوربا بهدف اضعاف صادرات الغاز الروسي الى دول الاتحاد الاوربي وإنهاك الميزانية الروسية التي تعتمد كثيرا على عائدات النفط والغاز وتقليص التدفقات النقدية الى الاقتصاد الروسي. في هذا الإطار نجحت الولايات المتحدة بتصدير17.2 مليار متر مكعب من الغاز المسال في 2017الى اوربا.
محاولات منافسة الغاز الروسي في السوق الأوربي من قبل الولايات المتحدة في الواقع لا تصب في مصلحة الاخيرة، نظرا لكون الغاز الروسي "وكذا القطري" هما الارخص عالميا والاقوى تنافسية من حيث السعر، حيث يصل سعر المليون وحدة حرارية الى 2.5 دولار مقابل 5.5 دولار للمليون وحدة حرارية بالنسبة للغاز الأمريكي المسال المصدر الى اوربا ، وبالتالي تظل فرص محاصرة الولايات المتحدة لروسيا محدودة في هذا الملف. كما ان إطلاق روسيا خط أنابيب مزدوج من شمال غرب روسيا عبر بحر البلطيق، (خط نورد ستريم2) لنقل ما يقرب من تريليوني قدم مكعب من الغاز سنويا من روسيا إلى شمال أوروبا يثير تحفظات واشنطن التي ترى ان هذا المشروع يضر بتنافسية صادراتها التجارية من الغاز المسال من جهة، ومن جهة أخرى يضعف نفوذها السياسي في دول الاتحاد الأوربي ويعزز من ارتهان القرار الأوربي لسطوة روسيا. لذا فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية مشددة على العديد من الشركات الاوربية المساهمة في بناء الخط.
روسيا من جهتها تعمل وبالتعاون مع حلفائها الاستراتيجيين فيما يتعلق بغاز شرق المتوسط الإبقاء على تلك الاحتياطات الضخمة المكتشفة في الساحل السوري القريب من اوربا تحت اعينها وتشجع شركاتها على الاستثمار في تلك الحقول وبكل قوة تعمل على ابعاد الشركات الامريكية عن الساحل السوري ومراقبة خطوط الغاز الأخرى المحتمل وصولها الى المناطق الجنوبية من اوربا.
بحسب وكالة المسح الجيولوجي الأمريكي بشأن الاحتياطات المكتشفة من الغاز في الجرف السوري فقد يصل حجمها الى 700 مليار متر مكعب وهو ما يعادل ضعف الاحتياطات في البر الرئيسي..
هناك تعقيد اخر برز مؤخرا في شرق المتوسط يتعلق باكتشاف لبنان في فبراير2018 كميات كبيرة من الغاز في المنطقة الاقتصادية الخاصة به وابرامه اتفاق مع شركة NOVATEK الروسية للبحث عن الغاز في جرفها القاري في إطار كونسورتيوم يشمل كل من توتال الفرنسية وإيني الإيطالية. وفقًا لتوقعات السلطات اللبنانية هناك700مليار متر مكعب من الغاز تحتويه المنطقة الاقتصادية للبلاد.
اكتشاف مكامن الغاز والنفط في شرق البحر المتوسط يعتبر امراً في غاية الأهمية لأسواق الطاقة، لكنه قد يصبح نذير شؤم لشعوب المنطقة ويفجر صراعا جديدا يقود منطقة الشرق الاوسط لمألات يصعب التكهن بها.
المحور الرابع:
تأثير الاقتصادات الصاعدة على امن الطاقة العالمي:
التصور حول "مصادر التهديد" لأمن الطاقة العالمي الذي ساد على مدى عقود من تطور صناعة النفط العالمية تغير اليوم بفعل تزايد تهديدات القوى الاقتصادية الصاعدة (الصين- الهند- روسيا- البرازيل- كوريا-إندونيسيا) ومنافسة شركاتها النفطية للشركات الاوربية والامريكية التقليدية (اكسون موبيل، شيفرون، بي بي، رويال دتش شل، توتال الفرنسية، ايني الإيطالية) على الموارد النفطية والغازية، وهي الشركات التي كانت تدخل في عداد ما بات يعرف بالشقيقات السبع الكبرى التي سيطرت حينها على أكثر من ثلثي الإنتاج والاحتياطات العالمية.
إدارة معلومات الطاقة الامريكية في تنبؤاتها السنوية للطلب العالمي للطاقة واستهلاكها حتى عام 2030 تشير الى أن الاقتصاد العالمي سينمو سنويًا بمعدل 4.1٪. وسيصاحب هذا النمو زيادة في استهلاك جميع موارد الطاقة بنسبة 57٪ ليصل اجمالي الاستهلاك إلى 205 تريليون كيلووات في الساعة. ووفقا لهذه التنبؤات ستكون دول آسيا والمحيط الهادئ أكبر المستهلكين للطاقة. حيث ستستهلك الصين والهند حوالي .80 تريليون كيلووات في الساعة سنويًا في عام2030. وفيهما سوف ينمو استهلاك الطاقة بمعدل3.5 ٪ و 2.8٪ سنويًا على التوالي (في العالم - بنسبة 1.8٪). وبحلول عام 2030ستصبح الصين ثاني مستهلك للطاقة في العالم (42 تريليون كيلووات في الساعة) بعد الولايات المتحدة ( 47تريليون).34
ووفقا لتوقعات وكالة الطاقة الدولية بشأن إمدادات الطاقة في المستقبل، فإن 90 % منها سياتي من البلدان النامية في الشرق الأوسط وافريقيا وأمريكا اللاتينية. وهو ما يعني اشتداد المنافسة بين الشركات للاستثمار في هذه المناطق والصراع على مواردها الطبيعية. ويلاحظ في هذا الجانب تعاظم دور الشركات الروسية والصينية والهندية للاستثمار في القطاعات النفطية في هذه المناطق. ففي منطقة الشرق الأوسط تستثمر الشركات الروسية حاليا (وهي من ضمن الشركات الوطنية الصاعدة التي برزت بعد إعادة هيكلة قطاع النفط الروسي في تسعينات القرن الماضي) حوالي 10مليار دولار في حقول النفط العراقي، والحال كذلك للشركات الصينية التي تستثمر بالشراكة مع تركيا في صناعة النفط العراقية حوالي 10 مليار دولار.
المنافسة للسيطرة على مناطق جديدة في جغرافية تموضع مصادر الطاقة بين الشركات الصاعدة الصينية والروسية من جهة وشركات النفط العالمية الأخرى تزداد قوة وشراسة على امتداد مختلف المناطق بدءاَ من الشرق الاوسط مرورا بأفريقيا وصولا لأمريكا اللاتينية (تستثمر الصين 5 مليار دولار في فنزويلا).
هذا الصراع والتنافس قد يقود في حال اختلال ميزان الطاقة العالمي لصالح طرف دون الاخر الى احتمال المجابهة المباشرة وهو امر يدفع بالصين وروسيا على الدوام- لتعزيز تواجدهما العسكري والسياسي والاقتصادي في العديد من مناطق العالم بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط لحماية مصالحهما الحيوية (عمليا شرعت الصين ببناء قاعدة في القرن الافريقي "جيبوتي" وتسعى لإقامة قاعدة لها في اليمن أيضا على امتداد مدخل البحر الأحمر في إطار الخطة العالمية لحزام واحد- طريق واحد- لتامين موارد إضافية من الوقود الخام وتعزيز الاعمال اللوجستية لتجارتها العالمية). ويتناغم الروس مع تطلعات الصين الطاقوية في اطار سياسة مجابهة الغرب والصراع على مناطق النفوذ والاحتياطات والممرات الاستراتيجية وتعمل الدولتان على تنسيق سياساتهما الى حد ما في هذا الملف بمحاولاتهما عدم تمكين الولايات المتحدة وشركات النفط للدول الغربية من التفرد بموارد هذه المنطقة الغنية بالهيدروكربونات.. ( الروس يحاولون حاليا تامين حضور عسكري واقتصادي لهم مع اليمن من خلال تواصلهم مع جميع اطراف الازمة كضامن دولي في مباحثات الحل النهائي ويفاوضون على دخول شركاتهم النفطية للاستثمار في قطاع النفط اليمني ويستميتون في الساحل السوري وينشطون في شرق المتوسط وليبيا والعراق وفنزويلا ودول افريقية غنية بالخامات).
المؤشرات تؤكد ان الزيادة في الطلب على النفط ستكون كبيرة في الصين والهند، إضافة إلى كوريا (ج). فالصين حالياً تستورد أكثر من8.4 ملايين برميل يومياً وبنهاية عام 2020 م سيصل استيرادها إلى حوالي 12 مليون برميل في حال وجود نمو اقتصادي مستقر وهي بذلك ستكون الدولة الأولى في العالم من حيث استيراد النفط. وتستورد الصين حوالي 67.4% من احتياجاتها النفطية من الخارج (إحصاءات 2017). معظم الطلب الآسيوي سيتم تلبيته من منطقة الخليج العربي، وبدرجة أقل -بحسب التوقعات- من روسيا وبحر قزوين. ومع نهاية العقد الحالي قد يتجه ما يصل إلى 75% من إنتاج الخليج إلى آسيا..
الى عهد قريب كانت الدول الغربية تعتقد ان مشكلتها الرئيسية في قضايا الطاقة تكمن في كيفية تامين إمدادات النفط والغاز، أما اليوم فان الدول المتطورة صناعيا أصبحت تضع السؤال التالي "ماذا سيتبقى لنا من موارد الطاقة بعد "اشباع" الصين والهند لحاجاتهما؟؟.. لقد ازداد استهلاك الصين على مدى السنوات الأربعين الماضية للطاقة بمعدل أكثر من 25 مرة وبلغ 8.55٪ من اجمالي استهلاك العالم للطاقة في بداية الالفية. وزاد استهلاكها للغاز بنسبة 21.6 ٪ منذ عام 1991 وتضاعفت حصتها في ميزان الطاقة العالمي تقريبًا - من 9 إلى 16٪، وهي تقترب عن كثب من أوروبا (18٪) ومن المستهلك الأكبر-الولايات المتحدة (21٪).. النمو الاقتصادي المتسارع في الصين والهند استنفذ معه معظم احتياطات البلدين من موارد الطاقة تقريبا وأصبح البلدان يشتريان الطاقة من مختلف المناطق وتدفع الصين بشركاتها النفطية للاستثمار في مختلف بلدان العالم بصورة تهدد امن الطاقة من وجهة نظر الدول الصناعية الكبرى. (تفاوض الصين حاليا الحكومة اليمنية بشأن دخول شركاتها للاستثمار في قطاع النفط اليمني والحال كذلك للجانب الروسي وتمتلك اليمن وفق احصائيات شبه مؤكدة حوالي 9.5 مليار برميل في الاحواض المكتشفة وهناك عدة احواض لازالت قيد الترويج).
لقد أصبحت الصين عمليا تطبق تلك المبادئ الذي وضعها ذات يوم رئيس وزراء بريطانيا تشرشل لأمن الطاقة العالمي والتي اوجزها في مقولته الشهيرة "امن الطاقة يكمن في تنويع مصادر الوصول لموارد الطاقة". فالصين تتجه بقوة للاستثمار في حقول النفط في افريقيا التي تغطي 30%من احتياجاتها (معظمها من "أنجولا") وهناك حضور قوي للشركات الصينية في أسواق المواد الخام الأفريقية. وفقًا لبنك الاستيراد والتصدير الصيني (Eximbank) في عام 2007 استثمرت أكثر من 800 شركة صينية (بما في ذلك 100مملوكة للدولة) في 49 دولة أفريقية ويقترب حاليا عدد الشركات الصينية في دول القارة الى اكثر من 1000شركة. وتمتلك إفريقيا حوالي 9.5٪ من احتياطيات النفط المؤكدة في العالم والتي يمكن الوصول إليها بسهولة ونقلها عن طريق البحر.
وفقًا لـ BP Statistical Review of World Energy، فإن بلدان القارة الافريقية تنتج 12٪ من الإنتاج العالمي للنفط (نيجيريا 18٪ - 2.4 مليون برميل/ لليوم). وهناك دول كثيرة تتنافس على الموارد النفطية في افريقيا الى جانب الصين مثل الولايات المتحدة التي تستورد ما يعادل 22% من احتياجاتها النفطية من افريقيا ودول الاتحاد الأوربي حوالي15% من احتياجاتها وتتنافس دول أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند والبرازيل وتركيا وتايلاند وعدد من الدول الأخرى في الحصول على النفط الافريقي. فيما بلغت حصة النفط الأفريقي من إجمالي واردات الهند الذي ينمو اقتصادها بوتيرة سنوية عالية- في عام 2016حوالي15٪. من اجمالي الواردات وقد عرضت الهند كثاني أسرع اقتصادات العالم نمواً بعد الصين (8% معدل النمو السنوي) في عام 2005 قروضًا ثنائية بقيمة مليار دولار للبلدان الأفريقية الغنية بالنفط لإقامة مشاريع الطاقة والسكك الحديدية ومصافي النفط مقابل حقوق استغلال احتياطيات النفط.
المحور الخامس:
التنافس على ثروات بحر قزوين واسيا الوسطى
في إطار سياسة تنويع مصادر الحصول على موارد الطاقة من الأقاليم الأخرى تعمل الولايات المتحدة على تعزيز دور شركات الطاقة الامريكية للاستثمار في بلدان آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين الغنية بموارد الغاز والنفط. هذه المنطقة اصبحت تلعب دوراً حاسماً في نظام أمن الطاقة العالمي، لأن لديها احتياطيات ضخمة من النفط والغاز. وتمتلك ثلاث دول من دول حوض بحر قزوين (مساحة بحر قزوين 380000 كيلو متر) وهي أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان- ما يصل الى 50مليار برميل (7مليار طن) من النفط الخام (حوالي 3.5٪ من الاحتياطيات العالمية المؤكدة) و 12.5تريليون متر مكعب من الغاز (حوالي 6.8٪ من احتياطيات العالم).
الولايات المتحدة منذ العام 2005م اصبحت "اللاعب الثالث" المنافس بقوة على الموارد النفطية في إقليم أسيا الوسطى الى جانب الصين وروسيا. فالولايات المتحدة تسعى إلى تعزيز "امن الطاقة الخاص بها في هذا الاقليم" وتعمل بكل قوة لكبح "تطلعات الصين وإبعاد "تطلعات" كل القوى الإقليمية الأخرى الطامحة أيضا في منافستها على موارده، بما في ذلك إبعاد الخطر "الإيراني والخطر الهندي المتصاعد". الشركات الأمريكية والاوربية المتعددة الجنسية أصبحت تستثمر أموالا طائلة في البنى التحتية الخاصة بنقل "الهيدروكربونات- من بلدان هذا الإقليم عبر خطوط النقل" الى اوربا. ففي أذربيجان على سبيل المثال تلعب شركة بريتيش بتروليوم البريطانية دورًا رائدًا في تطوير مجمع عملاق من حقول النفط البحرية في منطقة أزيري- شيرات- جونيشلي باحتياطي 1 مليار برميل وحقل غاز شاه دنيز باحتياطي يصل الى 1.2تريليون متر مكعب.
ونظرا لصعوبة ضخ النفط من هذا الإقليم عبر "نقاط ترانزيت" تمر عبر الأراضي الإيرانية وتزايد الشكوك تجاه "نوايا الحكومة الروسية" التي تتبنى إستراتيجية "حروب الطاقة " عملت حكومة كلينتون السابقة وبالشراكة مع شركات بعض الدول الاوربية على المشاركة في مد خط" أنابيب "باكو- تبليسي- جيهان التركي" كثاني أطول خط في العالم لنقل النفط من القوقاز الى الأسواق الأوربية (بطاقة نقل تصل الى 2مليون برميل/ يوميا، اي 1% من امدادات النفط للسوق العالمية)، ويبلغ طول الخط 1.776 كم ويمتد من العاصمة الآذرية باكو إلى ميناء جيهان التركي على البحر المتوسط، ويمر عبر الأرضي الجورجية بعيدا عن أراضي روسيا وإيران.
هناك تغيرات جذرية حدثت في سياسة الولايات المتحدة بعد أحداث 11سبتمبر 2001 تجاه منطقة اسيا الوسطى ودول حوض بحر قزوين ومنطقة القوقاز عموما. فقد تحول هذا الإقليم الى المرتبة الثانية بعد اقليم الشرق الاوسط في اهتمامات الادارة الأمريكية في إطار إستراتيجية "محاربة الإرهاب" وتامين مصادر الهيدروكربونات.. في عام 2002 أعلنت لجنة تخطيط السياسة الخارجية الأمريكية بان أحد أهداف الولايات المتحدة بعد الحادي عشر من سبتمبر تتلخص في حماية مناطق انتاج النفط الممتدة من "بحر قزوين" حتى "الخليج الفارسي" والحفاظ على حركة الإمداد وتدفق موارد الطاقة ذات الصلة وحمايتها.
الحضور الأمريكي القوي في هذه المنطقة تمكن من تحقيق عدد من الأهداف أبرزها:
-الاحتواء النسبي لتأثير روسيا على احدى اهم مناطق "النفوذ السوفيتي السابق" وتمكنها من الاقتراب من حدود الصين ونصب طائراتها التكتيكية الحاملة للرؤوس النووية بالقرب منها وامتلاكها امكانيات لوجستية كبيرة قادرة على التأثير في العلاقة القائمة بين روسيا وإيران المثيرتين لقلق الولايات المتحدة.
-في نفس الوقت وضعت الولايات المتحدة نصب اهتماماتها احتواء كل من أوزبكستان وتركمانستان وهما البلدان الآخران الواقعان في مناطق النفوذ "السوفيتي السابق" والغنيتان بموارد "الغاز الطبيعي". وما يثير حساسية الولايات المتحدة وانزعاجها في مسالة "امن الطاقة العالمي" هو إمكانية ان تكون الصين والهند وباكستان من البلدان الرئيسية المستهلكة للغاز الروسي، وتوجه صادرات الغاز الروسي شرقا في المستقبل القريب، كما ان عجزها في الوصول للغاز "الايراني" يضاعف من "قلقها" ويدفعها للاهتمام بالاحتياطات الضخمة في "جمهورية تركمنستان.". وابعاد يد موسكو وطهران عن تلك الاحتياطات..
الصراع على ثروات "بحر قزوين" يعكس تناقض المصالح الدولية وتصادمها. ولفهم الخطوط العريضة لطبيعة هذا الصراع و"اللعبة الكبرى" في هذا الإقليم ينبغي النظر الى خارطة خطوط الأنابيب الرئيسية لإمدادات النفط والغاز والتي تمثل شبكة عنكبوتية تمتد على طول القارتين الأوروبية والآسيوية ويقع عمقها في الاراضي الروسية ويتم التحكم بها عبر احتكار شركتي Gazprom Transnet الروسيتين. فهاتان الشركتان تتحكمان بإمدادات الطاقة الى أوروبا والصين وبعض دول شرق اسيا وتعززان دور روسيا في أسواق الطاقة وفرض هيمنتها على الخارطة الجيوسياسية لمراكز الطاقة العالمية. لذا تسعى الولايات المتحدة التي لا تكاد تستورد النفط والغاز من روسيا، الى إضعاف نفوذ موسكو في هذا الاقليم عبر دعم شركاتها للوصول إلى احتياطيات الطاقة في آسيا الوسطى ومنطقة بحر قزوين واضعاف هيمنة الشركات الروسية بوضع مسارات جديدة لخطوط نقل الطاقة من اسيا الوسطى والقوقاز الى مناطق الاستهلاك الرئيسة بعيدا عن الأراضي الروسية.
بحسب وجهة نظر دول الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة فان موارد الطاقة في هذا الإقليم وكل إقليم آسيا الوسطى ينبغي ان يتم تصديرها عبر الأنابيب دون الحاجة لمرورها بأي جزء من الأراضي الروسية وضرورة التعامل مع روسيا في هذا الجانب باعتبارها كتلة مستقلة بحد ذاتها فيما يتعلق بموارد الطاقة. هذه الطروحات ترفضها موسكو وتعمل بكل السبل لمجابهتها من خلال اتفاقية شنغهاي مع الصين والاتفاقات مع بعض دول الكومنولث الروسي التي بفضلها تمكنت موسكو من وضع يدها بصورة شبه مطلقة على حقول الغاز في تركمانستان.. الاتحاد الأوروبي من جهته أصبح يلعب دوراً بارزاً في ضمان أمن دول القوقاز الثلاث- أذربيجان وأرمينيا وجورجيا- لأسباب ليس أقلها حماية خطوط أنابيب الممر الجنوبي المهمة جدًا لنقل الغاز الى دول الاتحاد.. وفقًا للخبراء الأوروبيين فانه بحلول 2030 سيزداد اعتماد الاتحاد الأوروبي على واردات الهيدروكربون من 50٪ إلى 65٪.. الطلب على النفط سيرتفع من 82٪ إلى 93٪ والغاز من 57٪ إلى 84٪. وبالتالي ستعمل دول الاتحاد بكل قوة للحفاظ على مصالحها في الإقليم لتامين أكبر قدر ممكن من موارد الطاقة.
الصراع الحالي على موارد الطاقة في منطقة اسيا الوسطى (تركمنستان- كازاخستان- طاجيكستان- قرغيزستان- أوزبكستان) ومنطقة بحر قزوين (روسيا وإيران وأذربيجان وتركمانستان وكازاخستان) هو امتداد لصراع تاريخي للسيطرة على ثروات هذه المناطق بما في ذلك الموارد الطبيعية لبلاد فارس وأفغانستان المجاورة لإقليم اسيا الوسطى. (في القرن التاسع عشر حاولت بريطانيا السيطرة على بلاد فارس الغنية بالنفط والحال كذلك لروسيا القيصرية التي فرضت سيطرة مطلقة على الحقول الآذرية لعقود طويلة).. اليوم يعيد التاريخ نفسه ونرى تصادما لمصالح نفس القوى العظمى وبمشاركة قوى اقتصادية وعسكرية صاعدة جديدة على موارد الإقليم (الهند والصين). بحسب الصحيفة الفرنسية «Le Nouvel Economiste», فان الحرب ضد طالبان في أفغانستان هدفت في المقام الأول الى تعزيز الوجود الأمريكي في مناطق أسيا الوسطى التي يمتد جزء كبير من أراضي دولها بمحاذاة "بحر قزوين"، إضافة الى تجديد مساعيها في "بث الروح" في مشروعها القديم بمد أنبوب نقل الغاز من حقول تركمنستان في أسيا الوسطى الى المحيط الهندي مروراً بالأراضي الأفغانية والباكستانية.
بهذا الصدد، عملت الولايات المتحدة في صراعها على ثروات هذا الإقليم وبالتعاون مع بعض الدول الأوربية على إنشاء خط انابيب لنقل النفط عبر كل من أذربيجان وجورجيا وصولا الى تركيا (خط باكو- تبليسي- جيهان التركي) وإنشاء كذلك خط آخر لنقل الغاز من نفس المنطقة ( باكو- تبليسي- ارضوم-2006م) الذي ينقل حوالي 25مليار متر مكعب سنويا من حقول الغاز الآذرية عبر جورجيا الى تركيا ومنها الى اوربا، وكذا خط نابوكو (2009) لنقل الغاز الى اوربا والذي يعبر قاع بحر قزوين إلى أذربيجان وأراضي تركيا والعديد من الدول الاوربية وصولا الى النمسا دون المرور بروسيا.
محاولات تزويد اوربا بالغاز من دول الإقليم عبر انابيب النقل بعيدا عن أراضي روسيا استمرت بوتيرة عالية، حيث تم التوقيع في عام 2012على اتفاق بين أذربيجان وتركيا لنقل الغاز الأذري باتجاه اوربا تحت اسم "خط الغاز عبر الأناضول" تاناب، وفي2019 اعلن عن استكمال بناء الانبوب ووصوله الى الحدود التركية- اليونانية ، ومن المقرر ربط هذا الانبوب لاحقا بالأنبوب الذي يمر عبر البحر الأدرياتيكي "تاب" المقرر له ضخ الغاز عبر اليونان والبانيا الى إيطاليا في اطار ما سمي بمشروع ممر الغاز الجنوبي الذي سينقل حوالي 16مليار متر مكعب من الغاز صوب الأسواق الاوربية (ستة مليارات الى السوق التركية وعشرة مليارات صوب اوربا).
في المقابل، تسعى روسيا جاهدة الى اعتماد بديل آخر لمناطق عبور موارد الطاقة من قزوين بربطها بخط أنبوب يمتد من أراضي أذربيجان ليعبر عمق الأراضي الروسية وصولا الى ميناء نوفوراسيسك الروسي على البحر الاسود (خط باكو- نوفوراسيسك). وتمكنت موسكو عام 2003 من ابرام اتفاق مع تركيا لمد انبوب ناقل للغاز من سواحلها على البحر الأسود الى تركيا (مشروع السيل الأزرق) وإطلاق خط النقل في العام 2004 (السيل التركي) لنقل الغاز الروسي عبر تركيا الى اوربا وأصبحت روسيا من خلال خطوط النقل "السيلين الشمالي والتركي" تفرض هيمنة شبه مطلقة على الأسواق الاوربية وتغطي حوالي ثلث واردات اوربا من الغاز.
الصين هي الأخرى لاعب رئيسي في منطقة القوقاز واسيا الوسطى وتعمل على اقتطاع جزء من موارد الطاقة في هذا الإقليم لمصلحتها وتنافس شركاتها الشركات الاوربية والامريكية والروسية على ثروات الإقليم الطبيعية. ففي غضون 2.5سنة فقط، تمكنت شركة البترول الوطنية الصينية (CNPC) من بناء خط أنابيب بطول 2.2 ألف كيلومتر لنقل الغاز من آسيا الوسطى من حقول الامتياز الخاصة بها في شمال تركمانستان (Bagtyyarlyk )- عبر أوزبكستان وكازاخستان- إلى منطقة شينجيانغ الويغورية ذات الحكم الذاتي في شمال غرب الصين لضخ حوالي 40 مليار متر مكعب من الغاز سنويا( قابل للارتفاع الى 250مليار متر مكعب بحلول 2020.. بالإضافة إلى ذلك تعمل الشركة الصينية CNPC في تطوير حقل South Yoloten الذي وفقًا لتقديرات شركة الاستشارات البريطانية المستقلة Gaffney، Cline & Associates، يحتوي ما لا يقل عن 4تريليونات متر مكعب من الغاز (قابل للارتفاع إلى 14تريليون متر مكعب). ويعتبر من أكبر الحقول العالمية للغاز الطبيعي، وتسعى تركمنستان من خلاله تصدير غازها ليس فقط الى الأسواق الصينية بل وكذلك الى روسيا وإيران ودول الاتحاد الأوربي والهند والباكستان في حال استقرار الأوضاع في افغانستان.
الصين تولي كذلك اهتماما خاصا وكبيرا بالموارد الاقتصادية الضخمة لجارتها كازاخستان الواقعة في الجنوب الشرقي لحدودها (تمتلك كازاخستان احتياطيا من الغاز يقارب 1.82تريليون متر مكعب بما يعادل 1.7% من الاحتياطات العالمية- وفقا لتقرير شركة بريتيش بتروليوم-2009) وتعتبر كازاخستان بلدا محوريا في إقليم اسيا الوسطى وتلعب دورا حيويا في تحديد المستقبل الاقتصادي والسياسي لكل بلدان الاقليم. كما أنها واحدة من أغنى الدول في العالم من حيث الموارد الطبيعية، وتقدم لها الصين مختلف القروض الائتمانية بشروط ميسرة وتضخ استثمارات ضخمة في اقتصادها لتطوير صناعتها النفطية بهدف ضمان مصالحها وحصصها من الثروات.. في عام 2009 ضاعفت الصين حضورها في قطاع الطاقة لكازاخستان بشكل ملحوظ وقدمت قروضا ميسرة بلغت ما يقرب من 13مليار دولار لسد العجز في ميزانية البلاد لأسباب ارتبطت بتراجع اسعار النفط في السوق العالمية عام 2009. كذلك قامت شركة النفط والغاز الوطنية الصينية (CNPC) بشراء شركة Mangistaumunaigas الكازاخية مقابل 2.6مليار دولار.
التوقعات تشير مستقبلا الى ان صادرات كازاخستان من النفط والغاز سوف تذهب بشكل أساسي إلى الصين. (الطلب على الغاز الطبيعي في الصين سيرتفع في عام 2030 الى 300 مليار متر مكعب والقدرة الإنتاجية لتغطية الطلب ستصل الى 200 مليار متر مكعب وتسعى الصين الى تغطية العجز من جارتها كازاخستان، وبالتالي، فإن دور الصين كمنافس للموارد النفطية في الشرق الأوسط سينخفض وسيتم تعويض جزء كبير من احتياجاتها من إقليم اسيا الوسطى. والى جانب الصين تهتم كل من الهند ودول الاتحاد الأوربي بثروة النفط والغاز في كازاخستان، حتى روسيا التي لا تحتاج إلى نفط كازاخستان تلعب دوراً رئيسياً في التحكم بصادراتها، نظرا لسيطرتها على نظام خطوط الأنابيب في آسيا الوسطى.
في إطار سياساتها تجاه دول إقليم اسيا الوسطى تسعى الولايات المتحدة بأي ثمن إلى منع التحالف الاقتصادي بين كازاخستان وروسيا كقوتين مؤثرتين في امن الطاقة العالمي، لكن الروابط التاريخية والاقتصادية والاجتماعية مع روسيا اقوى من ان تؤثر عليها مثل هكذا توجهات.. الشيء شبه المؤكد بخصوص افاق الصراع على موارد الطاقة في هذا الإقليم انه سيشهد مزيدا من التعقيد نظرا لتقاطع مصالح كثير من الدول، وبالتالي كل الاحتمالات واردة ان تتحول شدة المنافسة على موارد الإقليم ذات يوم الى صراع يكرر مأساة كثير من مناطق انتاج النفط والغاز في العالم ويكون صورة مماثلة لمناطق انتاج الطاقة الملتهبة في الشرق الأوسط وافريقيا.
المحور السادس: احتياطات المحيط المتجمد الشمالي
منطقة القطب الشمالي حزام جليدي يشغل امتدادا واسعا من الأرض بمساحة تقدر بـ 21مليون كيلومتر مربع، بما في ذلك ضواحي قارات اوراسيا وأمريكا الشمالية، وكامل المحيط القطبي الشمالي مع الجزر، وكذلك الأجزاء المجاورة للمحيط الأطلسي والمحيط الهادئ. في الوقت الحالي، تعتبر كل من روسيا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية والنرويج والدنمارك دولًاً في القطب الشمالي؛ وتطالب أيسلندا والسويد وفنلندا أيضًا بهذا الوضع، على الرغم من عدم امتلاكها لحدود مشتركة مع القطب الشمالي. هذا الإقليم يفتقر لمعاهدة دولية تنظم الأنشطة الدولية فيه، وهو محكوم بالقوانين الوطنية لدول القطب الشمالي، وعدد من الاتفاقات الثنائية والاتفاقات الدولية بصورة جزئيًة والتي لا تؤثر على وضعه القانوني. بدأ الصراع حول المنطقة القطبية الشمالية في القرن العشرين، عندما بدأت دول القطب بالمطالبة بحقوقها وبحلول منتصف العشرينات من القرن الماضي كانت المنطقة القطبية الشمالية مقسمة فعليًا بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي والنرويج وكندا والدنمارك وفقًا لمبدأ قطاعي- كانت نقطة القطب الشمالي هي حدود الدول المعنية. ولكن بعد اعتماد اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في عام1982 تغير الوضع وأصبحت الدول الواقعة في منطقة القطب الشمالي تتمتع بالحق الاستئثاري في تطوير باطن الأرض داخل منطقتها الاقتصادية الخالصة والجرف القاري الخاص بها.
وتحدد المادة76 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار تلقائيًا حدود الجرف القاري لكل دولة ب 200ميل بحري ولكنها تمنح الدولة الحق في المطالبة بجرف يمتد إلى ما وراء تلك الحدود. وتطالب حاليا كل من الدنمارك وكندا وروسيا بتوسيع حدود الجروف القارية الخاصة بها.
النمو الهائل في حجم الإنتاج الصناعي وما نتج عنه من تأثير سلبي على "البيئة والمناخ العالمي" جعل أنظار الدول العظمى تتجه صوب تلك الاحتياطات الواقعة في منطقة "القطب المتجمد الشمالي". الموقع الجغرافي الفريد والتطور التكنولوجي المتاح وسرعة تأثير عوامل "المناخ الدافيء في منطقة القطب" أصبحت جميعها عوامل توفر إمكانيات جداً "مريحة" لعمليات استغلال الثروات الطبيعية في منطقة القطب الشمالي وجعلها في متناول الاستخدام بصورة اقتصادية أكثر يسراً. كما ان منطقة القطب الشمالي تمتلك أهمية عسكرية واستراتيجية كبرى فعبرها تمر أقصر الطرق البحرية والجوية التي تربط أراضي أمريكا الشمالية بالمجال الجغرافي "الاورو- أسوي"، الأمر الذي يدفع الى زيادة النشاط العسكري لتامين المصالح الحيوية للدول المطلة على منطقة القطب الشمالي. قد تصبح منطقة القطب الشمالي مصدرا للتوتر الدولي بسبب التنافس للوصول إلى مواردها. وفقًا للمسح الجيولوجي الأمريكي، فإن حوالي 22٪ من موارد الهيدروكربون غير المكتشفة في العالم تقع تحت جليد القطب الشمالي. في الوقت نفسه، يوجد 84٪ من الموارد في جرف المحيط المتجمد الشمالي و 16٪ فقط على الأراضي البرية لولايات القطب الشمالي داخل الدائرة القطبية الشمالية.
بهذا الصدد تشير الوثيقة السرية المعلن عنها بتاريخ10 نوفمبر2009- تحت عنوان «US Navy Arctic Roadmap»"«خارطة طريق البحرية الأمريكية في القطب الشمالي- الى ان منطقة القطب مع اقتراب العام 2030 ستكون منطقة "غير متجمدة تقريبا" وستتأثر بفضلها بشكل جذري عمليات استخراج الموارد الطبيعية في المنطقة وحركة السياحة العالمية والنظام العالمي للنقل". وتؤكد قيادة البحرية الأمريكية أن الثروات المكتنزة في منطقة القطب سيترتب عليها تصاعد "المنافسة" بين الدول المجاورة لمنطقة القطب وصولا الى إمكانية الصراع والمجابهة على مواردها الطبيعة. وبهذا الصدد أعلنت كل الدول المطلة على تخوم القطب عن حقها السيادي في استغلال موارده وهي: روسيا- الولايات المتحدة- كندا- النرويج- الدنمارك، بما في ذلك الصين التي أعلنت مؤخرا أحقيتها في استغلال موارد القطب أسوة ببقية الأطراف الأخرى..
*(تحتفظ المجلة بالمراجع المتعددة التي استند اليها الباحث)