قراءة في قرار تشكيل لجنة تنظيم وتمويل الاستيراد.. إصلاح متأخر في مشهد نقدي مضطرب

قراءة في قرار تشكيل لجنة تنظيم وتمويل الاستيراد.. إصلاح متأخر في مشهد نقدي مضطرب

Uncategorised

,, تتناول هذه الورقة قرار رئيس مجلس الوزراء اليمني رقم (9) لسنة 2025 بشأن تشكيل اللجنة الوطنية العليا لتنظيم وتمويل الواردات، في لحظة اقتصادية بالغة التعقيد تشهد تصاعد الفوضى النقدية وتآكل أدوات الدولة في إدارة النقد الأجنبي؛ اعتمدت الورقة منهجية تحليل وصفي مقارن، استندت إلى قراءة بنود القرار، ومقارنتها بالسياق النقدي والتنظيمي، واستجلاء خلفيات التشكيل، وتكوين اللجنة، وتحليل أهدافها وصلاحياتها وفرص نجاحها وتحديات تنفيذها، مع إسقاطات على الواقع المؤسسي اليمني.

 

إعداد: وحيد عبدالكريم الفودعي

باحث وخبير اقتصادي

 

 

         توسع السوق الموازية

أظهرت النتائج أن تشكيل اللجنة جاء استجابةً لتراجع فعالية أدوات البنك المركزي وتوسع السوق الموازية والانقسام المصرفي، في ظل ضغوط إضافية فرضها تصنيف "أنصار الله" منظمة إرهابية؛ ورغم ما يمنحه القرار من صلاحيات واسعة، فإن فعاليتها تبقى رهينة ترجمة هذه الصلاحيات إلى لوائح ملزمة وآليات تنفيذ سريعة، مع معالجة ملاحظات تتعلق بغياب التمثيل الإنتاجي وإمكانية تأثير رئاسة المحافظ على استقلالية البنك المركزي.

 

          قنوات تمويل الاستيراد

خلصت الورقة إلى أن اللجنة تمتلك فرصًا حقيقية لتوحيد قنوات تمويل الاستيراد، وترشيد الطلب على النقد الأجنبي، وبناء قاعدة بيانات وطنية للتجارة الخارجية، وتقليص التهريب الجمركي والضريبي، مستفيدة من لحظة توافق داخلي نسبي ودعم دولي للإصلاحات؛ غير أن هذه الفرص تقابلها تحديات بنيوية وسياسية وتشغيلية، أبرزها ضعف التماسك المؤسسي، وتعدد مراكز النفوذ، وغياب إطار قانوني محكم، ومقاومة بعض المستوردين المعتادين على القنوات غير الرسمية.

 

           كيانات تنظيمية سابقة

إضافة إلى مخاطر اضطراب سلاسل الإمداد وعودة السوق الموازية إذا تأخرت الإجراءات أو تسيست القرارات، والتهرب الجمركي أو التحول إلى ميناء الحديدة؛ ويظل مستقبل اللجنة مفتوحًا على مسارين: نجاح مشروط بتوافر الإرادة السياسية والإطار القانوني والقدرة التنفيذية، أو فشل يعيدها إلى مصير كيانات تنظيمية سابقة تلاشت وسط البيروقراطية والصراعات.

 

         تطوير منصة رقمية

أوصت الورقة بثمانية مسارات عملية مترابطة، تشمل: إصدار لائحة تنفيذية محكمة تحدد صلاحيات اللجنة وتضمن إلزامية قراراتها، ووضع ضوابط تكفل استقلالية البنك المركزي وفصل دوره الاستراتيجي عن المهام التنفيذية، واستكمال بناء الوحدة الفنية وتطوير منصة رقمية موحدة لتمويل الواردات، واعتماد معايير شفافة لنشر البيانات وإشراك القطاع الخاص، وتصميم منظومة متوازنة من أدوات الردع والحوافز، ووضع خطط استجابة عاجلة لحماية الأمن الغذائي وإنشاء مخزون استراتيجي قصير الأجل، واستثمار الدعم الدولي لبناء القدرات ومواءمة عمل اللجنة مع المعايير الدولية، وأخيرًا ربط استمرار عمل اللجنة أو تعديل صلاحياتها بنتائج تقييم أداء خلال فترة 6–12 شهرًا لضمان التحسين المستمر وقياس الأثر الفعلي.

 

          تفاقم الانقسام النقدي

صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 9 لسنة 2025 القاضي بتشكيل "اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات" في لحظة فارقة من تاريخ الاقتصاد اليمني، اتسمت ببلوغ حالة الانكشاف النقدي والمالي ذروتها، وسط انهيار قياسي لسعر صرف العملة الوطنية، وتصاعد ضغوط السوق السوداء، وانكماش تدفقات العملة الصعبة، وتفاقم الانقسام النقدي والمؤسسي بين مناطق الحكومة الشرعية ومناطق حكومة صنعاء؛ وعلى خلفية تصنيف "أنصار الله" كمنظمة إرهابية من قبل عدد من الدول، وتعاظم المخاوف من توظيف قنوات الاستيراد في تمويل أنشطة خارجة عن القانون، بات من الضروري للدولة أن تستعيد السيطرة - أو على الأقل بعضًا منها - على واحدة من أكثر حلقات النشاط الاقتصادي أهمية وتأثرًا: حركة الاستيراد وتمويل الواردات.

 

       تنظيم التدفقات النقدية

وفي ضوء هذه التطورات، برزت الحاجة إلى إيجاد آلية تنسيقية عليا تعزز قدرة الدولة على تنظيم عمليات الاستيراد وتمويلها، والحد من المخاطر المرتبطة بتعدد القنوات غير المنظمة؛ فالقرار يمثل - من حيث المبدأ - خطوة نحو إعادة تنظيم التدفقات النقدية المخصصة للاستيراد عبر إطار مؤسسي جديد يجمع بين الجهات الحكومية والقطاعين المصرفي والتجاري؛ وإذا كان البنك المركزي قد ظل الجهة الرئيسية المعنية بإدارة النقد الأجنبي، فإن إنشاء اللجنة يعكس توجهًا لتوسيع دائرة المشاركة المؤسسية في هذا المجال، ووضع معايير موحّدة للامتثال، بما يسهم في رفع مستوى الانضباط والشفافية في عمليات تمويل التجارة الخارجية.

 

أولًا: التكوين والتشكيل

ليس من قبيل المصادفة أن يصدر قرار تشكيل اللجنة الوطنية العليا لتنظيم وتمويل الواردات في هذا التوقيت، إذ يمر الاقتصاد اليمني منذ مطلع 2023م بظروف نقدية واقتصادية بالغة التعقيد، لم تعد الأدوات التقليدية كافية لمعالجتها؛ فقد تراجعت قدرة البنك المركزي على التأثير في السوق، وضعف التنسيق بين المؤسسات الاقتصادية المعنية، وتسرّبت موارد النقد الأجنبي خارج القنوات الرسمية، فيما توسع نشاط السوق الموازية وتعددت مسالك الاستيراد غير المنظم، إلى جانب استمرار الانقسام المصرفي بين عدن وصنعاء؛ كما أضاف التصنيف الدولي لـ "أنصار الله" كمنظمة إرهابية تحديات إضافية لحركة التجارة الخارجية، ولا سيما فيما يتعلق بتحويل الأموال ومخاطر التورط غير المباشر في تمويل الكيانات المحظورة، الأمر الذي دفع الحكومة إلى البحث عن آلية تنظيمية جديدة خارج الإطار التقليدي للبنك المركزي.

 

        تشجيع الإنتاج المحلي

من هذه الزاوية، تبدو اللجنة الجديدة إطارًا مؤسسيًا أعلى يهدف إلى وضع السياسات وتنظيم وإجازة وتوجيه عمليات تمويل الواردات على وفق معايير موحّدة، بما يعزز حضور الدولة في هذا المجال؛ ويُلاحظ أن القرار لم يُسند هذه المهمة إلى البنك المركزي وحده، بل أنشأ كيانًا يترأسه المحافظ نفسه، ويمثل فيه وزارات ومؤسسات ذات صلة مباشرة بحركة الاستيراد، من بينها مصلحة الجمارك ووزارات الصناعة والمالية والنقل، والمؤسسة العامة للنفط والغاز، إضافة إلى ممثلين عن الغرف التجارية والبنوك، ورغم تنوع تمثيل الجهات في اللجنة، يغيب عنها تمثيل مباشر للقطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة، وهو ما كان يمكن أن يدعم أحد أهدافها المعلنة المتمثل في تشجيع الإنتاج المحلي.

 

       تعزيز التنسيق المؤسسي

هذه التركيبة تشير إلى محاولة لتوسيع نطاق المشاركة المؤسسية في الرقابة النقدية وتمويل التجارة، عبر إشراك جهات من خارج القطاع المصرفي في صنع القرار الاقتصادي، وهو ما قد يسهم في تعزيز التنسيق المؤسسي، لكنه يثير في الوقت ذاته تساؤلات حول مستقبل استقلال القرار النقدي، وما إذا كانت اللجنة ستؤدي دورًا تنسيقيًا فعالًا أم أن تعدد الأطراف قد يؤثر على سرعة وفاعلية القرارات.

 

       يؤثر على استقلالية البنك

كما أن إسناد رئاسة اللجنة لمحافظ البنك المركزي يعكس رغبة في إضفاء ثقل مؤسسي عليها، لكنه قد يؤثر على التوازن بين الأدوار التنظيمية والتنفيذية، إذ إن المحافظ، بصفته المسؤول الأول عن السياسة النقدية، منوط به الإشراف على الاستقرار النقدي ومراقبة البنوك وإدارة الاحتياطيات والتنسيق الدولي، وهي مهام تستند إلى مبدأ استقلالية البنك المركزي؛ توليه رئاسة لجنة تنفيذية متعددة الاختصاصات تتعامل يوميًا مع تفاصيل التمويل التجاري قد يشغله عن مهامه الاستراتيجية، ويقربه من تفاصيل العمل التنفيذي، وهو ما قد يحد من حيادية موقعه ويؤثر على استقلالية البنك المركزي بمرور الوقت.

 

ثانيًا: تقييم أهداف اللجنة

جاءت أهداف اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات، كما نص عليها القرار، لتعكس محاولة الجمع بين متطلبات الانضباط في إدارة التجارة الخارجية والواقعية التي تفرضها شح الموارد النقدية والانقسام المؤسسي؛ وقد حدد القرار خمسة أهداف رئيسية يمكن تناولها بالتحليل على النحو الآتي:

1- ضبط عمليات الاستيراد وتنظيم عمليات تمويل الواردات: يتصدر هذا الهدف قائمة مهام اللجنة، وهو يعكس رغبة في إعادة فرض معايير موحّدة لعمليات الاستيراد بما يضمن استمرارية تدفق السلع الأساسية وتلبية احتياجات السوق؛ غير أن تحقيق هذا الهدف يتطلب أكثر من مجرد وضع ضوابط، إذ يحتاج إلى آلية تنفيذية قادرة على متابعة الالتزام بهذه المعايير في مختلف مراحل الاستيراد، بدءًا من تقديم الطلبات وحتى الإفراج عن البضائع؛ وهنا تبرز أهمية التنسيق الميداني مع الموانئ والمنافذ الجمركية، وتوفير منصات إلكترونية تربط الجهات المعنية لضمان الشفافية والسرعة.

2- الرقابة على مصادر تمويل الاستيراد ومنع استخدام السوق الموازية: يهدف القرار إلى سد أحد أهم منافذ المضاربة على العملة، من خلال إحكام الرقابة على مصادر تمويل عمليات الاستيراد بالتنسيق مع البنك المركزي؛ غير أن نجاح هذا الهدف مشروط بقدرة اللجنة على توفير بدائل رسمية تتميز بالكفاءة والمرونة والسرعة، بحيث تقنع المستوردين بالتخلي عن قنوات السوق الموازية التي اعتادوا عليها لسنوات؛ كما يتطلب ذلك تعاونًا كاملاً من البنوك التجارية وشركات الصرافة، إضافة إلى أدوات ردع واضحة لمن يثبت مخالفته.

3- تسهيل عمليات التمويل بما يتناسب مع تدفقات النقد الأجنبي: هنا يحاول القرار الموازنة بين طموح ضبط السوق وواقع شح الموارد؛ فالتيسير لا يعني الانفتاح غير المشروط، بل إيجاد إجراءات مبسطة وشفافة تراعي أولوية السلع الأساسية وتمنع تراكم الطلبات، مع اعتماد معايير واضحة للمفاضلة بين المستوردين؛ نجاح هذا الهدف سيعتمد على وجود نظام معلومات فوري يمكّن اللجنة من اتخاذ قرارات تمويلية قائمة على بيانات دقيقة، لا على تقديرات عامة.

 

4- الحد من المخاطر المرتبطة بتصنيف "أنصار الله" كمنظمة إرهابية: يضع القرار هذا الهدف في سياق حماية النظام المالي والتجاري من أي شبهات تمويل غير مشروع؛ ويتطلب ذلك آلية تحقق دقيقة من مصادر الأموال، وتعاونًا وثيقًا مع الأجهزة الرقابية والقضائية، فضلًا عن بناء قدرات في مجال الامتثال للمعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب؛ التحدي هنا أن تطبيق هذه المعايير في بيئة اقتصادية منقسمة ومفتوحة على قنوات غير رسمية قد يواجه مقاومة أو التفافًا من بعض الأطراف.

5- تشجيع الإنتاج المحلي كبديل لبعض الواردات: على الرغم من وجاهة هذا الهدف من منظور استراتيجي، إلا أن تنفيذه يتجاوز نطاق صلاحيات اللجنة كما وردت في القرار، إذ يرتبط بسياسات إنتاجية وتحفيزية تحتاج إلى تنسيق بين وزارات عدة، منها الزراعة والصناعة، فضلاً عن حوافز ضريبية وتمويلية؛ إدراج هذا الهدف ضمن مهام اللجنة قد يعكس رغبة في ربط سياسات التجارة بسياسات الإنتاج، لكنه يظل أقرب إلى هدف إرشادي طويل المدى، لا إلى مهمة عملية قابلة للقياس الفوري.

 

       القدرة على التنفيذ والإنفاذ

في المحصلة، تمثل هذه الأهداف إطارًا طموحًا للتعامل مع حالة عدم الانضباط التي طبعت سوق الاستيراد والتمويل خلال السنوات الأخيرة؛ غير أن تحقيقها يتطلب انتقال اللجنة من مستوى التخطيط ووضع السياسات إلى مستوى القدرة على التنفيذ والإنفاذ، وهو ما لن يتأتى إلا بوجود نظام معلومات متكامل، وتعاون مؤسسي فعّال، وأدوات حاسمة للرقابة والمساءلة؛ إن وضوح الأهداف في القرار خطوة مهمة، لكن مردودها الفعلي سيظل رهينًا بمدى ترجمتها إلى آليات عملية قابلة للتطبيق في بيئة شديدة التعقيد والانقسام.

 

ثالثًا: ا لصلاحيات والمهام والاختصاصات

يُظهر القرار توجهًا واضحًا نحو منح اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات صفة اعتبارية قوية، إذ تمنحها الفقرة (ب) من المادة الأولى "كافة الصلاحيات القانونية والإدارية والفنية" في نطاق اختصاصها، وتخو ل رئيسها تمثيلها أمام القضاء ولدى الغير، بما يُكسبها غطاء رسميًا واسعًا، يتجاوز حدود التنسيق التقليدي، ويضعها ــ نظريًا ــ في موقع سلطة فوق قطاعية.

 

        قنوات متعددة للمراجعة

غير أن هذه الصلاحيات، رغم اتساعها النصي، لن تحقق أثرها ما لم تُترجم إلى آليات عملية مُلزمة، وتُرفد بأدوات تنفيذ واضحة، وبنية دعم إداري وفني متكاملة؛ فالقرار لم يوضح بصورة قاطعة ما إذا كانت قرارات اللجنة ذات قوة إلزامية في حال تعارضها مع قرارات أو صلاحيات جهات أخرى، أم أنها ستبقى في إطار التوصيات التي تمر عبر قنوات متعددة للمراجعة، بما قد يفتح المجال للتباطؤ أو الالتفاف.

 

          طابع مركّب ومتداخل

أما المهام والاختصاصات التي حددتها المادة الثالثة من القرار، فهي ذات طابع مركّب ومتداخل، ويمكن تلخيصها وتحليلها على النحو الآتي:

1- إدارة وتوجيه موارد النقد الأجنبي نحو تغطية عمليات الاستيراد الأساسية والمدفوعات الضرورية، بما يحقق الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة؛ هذا الدور يتطلب من اللجنة أن تكون على اتصال دائم ببيانات التدفقات النقدية والاحتياجات الفعلية للسوق، وهي بيانات غالبًا ما تتوزع بين أكثر من جهة.

2- تعزيز الرقابة على استخدام النقد الأجنبي بالتنسيق مع البنك المركزي، للحد من الضغوط على سعر الصرف، والمساعدة في استقرار العملة الوطنية؛ ويقتضي هذا الهدف بناء نظام رقابي لحظي قادر على رصد أي انحرافات في استخدام النقد.

3- وضع السياسات والمعايير لتمويل الواردات وتحديد أولوياتها، بما يشمل السلع الأساسية والأدوية والمواد الخام، وتصنيفها على وفق أهميتها في تحقيق الأمن الغذائي ودعم الاقتصاد؛ ويتطلب هذا التنسيق مع جهات التخطيط والقطاع الخاص لتحديد قوائم واقعية ومحدثة.

4- مراجعة سياسات وإجراءات التمويل بشكل دوري استجابة للمتغيرات الاقتصادية، وهو ما يعكس المرونة المطلوبة، لكن تنفيذه يعتمد على توفر بيانات محدثة وآلية مراجعة فعّالة.

5- مراجعة طلبات التمويل والتحقق من الامتثال ومصادر الأموال وعملية المصارفة، وهي مهمة ذات طبيعة رقابية دقيقة، تتطلب خبرات مصرفية وقانونية متخصصة.

6- الإشراف والرقابة على عمليات التمويل، ووضع قوائم بالمخالفين وحظر التعامل معهم في عمليات تمويل بالنقد الأجنبي مستقبلًا، بالتنسيق مع البنك المركزي؛ نجاح هذا الدور مرهون بوجود آلية إنفاذ فعّالة ومعلنة.

7- الاعتماد على برامج وخطط عمل تحقق أهداف اللجنة بالتعاون مع الجهات المعنية، وهو ما يتطلب درجة عالية من التنسيق المؤسسي.

8- اقتراح السياسات التجارية والنقدية المرتبطة بالواردات لدعم الاستقرار الاقتصادي وتشجيع الإنتاج المحلي كبديل لبعض الواردات، وهو دور استشاري ذو بعد استراتيجي يتجاوز الإطار التنفيذي المباشر للجنة.

 

         ذراعها التنفيذي والفني

كما نص القرار في مادته الرابعة على إنشاء وحدة فنية يصدر بتشكيلها وتحديد مهامها قرار لاحق من رئيس الوزراء بناءً على عرض رئيس اللجنة، وهو عنصر حيوي لتمكين اللجنة من القيام بمهامها، إذ يُفترض أن تكون هذه الوحدة ذراعها التنفيذي والفني، غير أن تأجيل تشكيلها لقرار لاحق يترك فراغًا مؤقتًا في البنية التشغيلية للجنة، ما قد يؤثر على قدرتها على التحرك منذ بداية عملها.

 

          حسم أي تضارب

إضافة إلى ذلك، تلامس اختصاصات اللجنة مجالات تتداخل مع صلاحيات جهات أخرى مثل البنك المركزي ووزارة المالية والأجهزة الرقابية والقضائية، ما يفرض ضرورة وجود آلية واضحة لحسم أي تضارب أو تداخل في الصلاحيات، حتى لا تتحول اللجنة إلى حلقة إضافية في سلسلة البيروقراطية، أو تواجه ازدواجية مرهقة في القرارات.

 

         تعاون الجهات الأخرى

وعليه، ورغم أن النص يمنح اللجنة أدوات نظرية قوية، فإن فعاليتها الفعلية ستظل رهينة بمدى الإسراع في تفعيل هذه الصلاحيات عبر لوائح تنفيذية، وتشكيل الوحدة الفنية، وضمان تعاون الجهات الأخرى معها، بما يحولها من إطار تنظيمي على الورق إلى سلطة عملية قادرة على إحداث فارق في بيئة الاستيراد وتمويله.

 

رابعًا: إيجابيات القرار وفرص نجاحه

إذا أردنا تقييم قرار تشكيل اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات باعتباره أداة تدخل جديدة في السوق، فإن تحليل الفوائد المحتملة لا يكتمل إلا بوضعها ضمن سياق التفاعلات الاقتصادية والمؤسسية المحيطة: أين تكمن فرص النجاح؟ وما العوائق المحتملة؟ وكيف يمكن أن تتفاعل القوى الاقتصادية القائمة مع هذا الكيان؟

 

       ضرورة إدارية واقتصادية

يبدو القرار، في جوهره، استجابة لضرورة إدارية واقتصادية ملحّة أكثر من كونه إصلاحًا هيكليًا شاملًا، إذ يركّز بدرجة أكبر على الحد من الاختلالات القائمة في سوق الاستيراد والتمويل، لا على إحداث نقلة نوعية فورية في البنية الإنتاجية أو كفاءة الاقتصاد الكلي؛ ومع ذلك، فإن توحيد معايير تمويل الواردات ووضعها تحت رقابة مؤسسية مشتركة يمثل فرصة عملية لإضفاء قدر أكبر من الانضباط والشفافية على واحدة من أكثر الحلقات الاقتصادية حساسية.

 

1- ترشيد الطلب على النقد الأجنبي:

مع انتقال تمويل عمليات الاستيراد بالكامل إلى اللجنة الوطنية، أصبحت هذه الأخيرة الجهة الوحيدة المخوّلة بتحديد أولويات الاستيراد، ووضع معايير التصنيف، ومراجعة مصادر التمويل؛ هذا الاحتكار المؤسسي لعملية التمويل يمنحها قدرة مباشرة على التحكم في حجم الطلب على النقد الأجنبي وتوجيهه نحو السلع الأساسية والمجالات ذات الأولوية، ويمنع عمليًا استنزاف العملات الصعبة في تمويل واردات غير ضرورية؛ وإذا ترافق ذلك مع نظام موافقات يتميز بالكفاءة والعدالة بين المستوردين، ونشر قوائم معلنة بالمخالفين وفرض حظر منظم على التعامل معهم، فسوف تتعزز بيئة الانضباط والمساءلة في السوق، مع تقليص فرص الالتفاف أو التلاعب.

 

2- الحد من تقلبات سعر الصرف:

حصر تمويل الواردات عبر اللجنة الوطنية يضع التدفقات المخصصة للاستيراد تحت رقابة مباشرة، ويمنع استخدامها في أغراض لأغراض غير مشروعة كالمضاربة، هذا الإطار الموحد لتخصيص النقد الأجنبي يعزز القدرة على التنبؤ بالطلب الفعلي على العملة الصعبة، ما يحد من الضغوط المفاجئة على سعر الصرف؛ وتزداد أهمية ذلك في ظل القيود التي فرضها البنك المركزي مؤخرًا على بيع النقد الأجنبي للأفراد، إذ حدد سقوفًا قصوى للمبالغ المسموح بشرائها (5000 دولار عبر البنوك، و2000 دولار عبر شركات الصرافة) وبشروط محددة تشمل السفر والعلاج والدراسة فقط، الأمر الذي يجعل قناة اللجنة هي المسار الأساسي والعملي لتلبية احتياجات الاستيراد، وبالتالي أداة مباشرة لدعم الاستقرار النقدي.

 

3- بناء قاعدة بيانات وطنية للتجارة الخارجية:

العمليات التي ستشرف عليها اللجنة، من مراجعة الطلبات وتصنيف الواردات والتحقق من مصادر التمويل، يمكن أن تنتج كمًّا كبيرًا من البيانات المحدثة والدقيقة حول حركة التجارة وأنماط الاستيراد واحتياجات السوق؛ إذا أحسن استخدام هذه البيانات، فإنها ستوفر للحكومة والقطاع الخاص مرجعًا موثوقًا لصياغة السياسات الاقتصادية والتجارية على أسس علمية وواقعية.

 

4- الاستفادة من الفرصة الهيكلية الراهنة:

هناك بيئة مواتية نسبيًا يمكن البناء عليها لتعزيز دور اللجنة كأداة مساندة في تنظيم تمويل الواردات، في إطار تكاملي مع البنك المركزي والجهات الحكومية ذات الصلة؛ فعدد من كبار المستوردين باتوا أكثر إدراكًا أن استمرار الممارسات غير المنظمة في سوق التمويل أضرّ باستقرار أعمالهم وعلاقاتهم مع الشركاء الخارجيين، كما أن المانحين الدوليين الذين طالما عبّروا عن قلقهم من ضعف الشفافية في إدارة النقد الأجنبي قد يجدون في عمل اللجنة، بالتنسيق مع الجهات الرسمية الأخرى، فرصة لتعزيز الرقابة وتحسين معايير الامتثال.

 

5- غياب البدائل الفعلية:

لا يوجد حاليًا كيان آخر يتمتع بصلاحيات مرنة وواسعة تجمع بين الوزارات الاقتصادية، والمؤسسات المالية، والقطاع الخاص، تحت سقف تنسيقي واحد؛ هذا الفراغ المؤسسي يمنح اللجنة فرصة فريدة للتموضع بسرعة كمرجعية وطنية لتنظيم تمويل الواردات، إذا ما استطاعت تجاوز القيود البيروقراطية وتفعيل أدواتها على أرض الواقع.

 

6- زيادة موارد الدولة عبر مكافحة التهرب الجمركي والضريبي:

من أبرز الآثار المحتملة لعمل اللجنة اشتراط أن تكون الصفقات المستوردة قد صُرفت قيمتها عبرها قبل السماح بتخليصها جمركيًا؛ هذا الشرط يمكن أن يحد من التهرب الجمركي ويضمن توريد الرسوم المستحقة للدولة، كما يحد من التهرب الضريبي من خلال إلزام المستوردين بالإفصاح عن قيمة وارداتهم؛ وفي ظل هذا النظام، يصبح المستورد أمام خيارين لا ثالث لهما: إما المصارفة عبر اللجنة ثم تخليص بضائعه بشكل نظامي، أو اللجوء إلى السوق الموازية وتحمل مخاطر التهريب، وهي نقطة قوة وفرصة من جهة، وتحدٍّ أمام اللجنة من جهة أخرى ستُناقَش لاحقًا.

 

7- فرصة الاستفادة من الدعم الدولي:

كما أن الدعم الدولي الحالي، المتمثل في إشادات ومباركات صدرت عن عدد من الجهات المانحة والمؤسسات المالية الدولية حيال الخطوات الإصلاحية الأخيرة، يوفر فرصة مواتية لتعزيز دور اللجنة، شريطة أن تُترجم هذه الإصلاحات إلى ممارسات فعلية تتسم بالشفافية والانضباط، بما يطمئن الشركاء الخارجيين إلى جدوى الاستثمار في استقرار السوق اليمنية.

 

خامسًا: التحديات

رغم ما يحمله القرار من فرص وفوائد محتملة، فإن تنفيذ مهام اللجنة يواجه مجموعة من التحديات البنيوية والواقعية، التي قد تحدّ من قدرتها على تحقيق الأثر المطلوب إذا لم تُعالج بآليات عملية واضحة.

 

1-التحدي المؤسسي:

نجاح اللجنة يتطلب درجة عالية من التماسك الإداري بين تسع جهات حكومية وخاصة، لكل منها ثقافتها المؤسسية، وأولوياتها، ودوافعها المختلفة؛ التنسيق بين هذه الجهات لا يكفي في حد ذاته، بل يحتاج إلى إرادة وجاهزية عملية للعمل تحت مظلة واحدة، وهو أمر غير مضمون في ظل الواقع الحالي؛ وتزداد هذه الصعوبة إذا أخذنا في الاعتبار طبيعة العلاقات المتوترة بين بعض الجهات المعنية؛ فبين وزارة المالية والبنك المركزي تداخل وصراع في الصلاحيات، وبين الغرف التجارية والجهات الحكومية فجوة ثقة متجذرة، في حين تتعرض مصلحة الجمارك لاتهامات بعلاقات غير متوازنة مع بعض المستوردين، وتعمل المؤسسة العامة للنفط أحيانًا بمنطق احتكاري؛ في هذا السياق، يصبح عمل اللجنة أقرب إلى محاولة تنسيق بين أطراف لا يثق بعضها ببعض، في بيئة منقسمة لا تخضع لسلطة مركزية موحدة.

 

2- التحدي السياسي:

تعمل اللجنة في بيئة قرار هشّة، تتسم بتعدد مراكز النفوذ، وتداخل الصلاحيات بين الحكومة المركزية والسلطات المحلية، خاصة في المحافظات الساحلية والمناطق التجارية الرئيسة؛ يثير ذلك تساؤلات حول مدى التزام الموانئ، والجمارك، ووكلاء الشحن، بالتعليمات الصادرة عن اللجنة، وما إذا كانت اللجنة تمتلك أدوات إنفاذ كافية، أم ستقتصر صلاحياتها على إصدار التوصيات والتقارير.

 

3- التحدي القانوني:

إذ لا يوضح القرار الأساس القانوني لتدخل اللجنة في شؤون البنوك أو الشركات الخاصة؛ هل تعليماتها ملزمة؟ ما مدى صلاحياتها في فرض الحظر أو سحب التراخيص؟ وهل قرار من اللجنة يكفي لحجب تمويل عن شركة أو منعها من التوريد؟ كل هذا يظل معلقًا ما لم يصدر إطار قانوني مكمل، يوضح سلطتها ومرجعيتها، ويحمي قراراتها من الطعن أو التجاهل، إضافة إلى ذلك، لم يشر القرار بوضوح إلى مسألة حق الطعن القضائي على قرارات اللجنة، سواء من قبل الجهات الإدارية المتضررة أو من قبل التجار والموردين، وهو ما يفتح ثغرة قانونية يمكن استغلالها لتعطيل القرارات أو إبطالها أمام القضاء؛ من الناحية المؤسسية، يُفترض أن تُخضع جميع قرارات اللجنة لحق الطعن على وفق آلية واضحة ومحددة، بما يوازن بين حماية صلاحياتها التنفيذية وضمان حقوق المتعاملين معها، وغياب هذا النص يُعد أحد أبرز أوجه القصور في البنية القانونية التي يستند إليها القرار.

 

4- التحدي المرتبط بواقع السوق:

تعتاد شريحة واسعة من المستوردين منذ سنوات على بيئة عمل غير رسمية، تتسم بالسرعة والمرونة وانخفاض التكاليف، وتوفر لهم مساحة للمناورة والتهرب؛ إدخال هؤلاء في منظومة تنظيمية جديدة سيواجه مقاومة فورية، خاصة إذا تضمن مراجعة مصادر الأموال، وتصنيف أولويات السلع، أو رفض بعض طلبات التمويل؛ ومن دون أدوات إلزام وتحفيز متوازنة، قد تواجه اللجنة جدارًا من الممانعة الصامتة، وربما العلنية، يقوض فاعليتها من الداخل.

 

5- تحدي تجارب سابقة غير ناجحة:

التاريخ القريب يزخر بأمثلة لكيانات تأسست بحماسة لتنظيم السوق ومعالجة مشكلاته، أبرزها اللجنة الاقتصادية التي أنشئت بموجب القرار الجمهوري رقم (175) لسنة (2018م) برئاسة رسمية ومكتب فني لتنفيذ قرارات ضبط الاستيراد والتجارة، ولا سيما في قطاع المشتقات النفطية عبر قراري مجلس الوزراء (75 لسنة 2018) و(49 لسنة 2019)؛ ورغم البداية القوية، سرعان ما واجهت اللجنة صعوبات بيروقراطية وصراعات مصالح، ما أدى في مطلع 2020 إلى نقل مهامها وآليات عمل مكتبها الفني إلى المجلس الاقتصادي الأعلى، وتراجع دورها التنفيذي إلى حد التهميش؛ هذه التجربة تقدم درسًا مباشرًا للجنة الوطنية الجديدة: لتجنب المصير ذاته، عليها أن تبني الثقة مع الأطراف الفاعلة، وتثبت فاعليتها الميدانية بسرعة، وتقنع السوق بأنها أداة لتنظيم المصالح لا لمصادرتها.

 

6- تحدي حجم التدفقات المالية والإجرائية:

بحكم صلاحياتها، ستتعامل اللجنة مع الجزء الأكبر من التدفقات النقدية المخصصة لتمويل الاستيراد، وهو ما يعني أن جميع عمليات الاستيراد النظامية في البلاد ستخضع لإجراءاتها؛ هذا الحجم الكبير من المعاملات يشكّل عبئًا تشغيليًا كبيرًا، خاصة في المراحل الأولى لتطبيق القرار، حينما تكون الآليات الإجرائية والأنظمة التقنية الداعمة غير مكتملة؛ من دون منصات إلكترونية متكاملة وأنظمة آلية لمعالجة الطلبات وربطها بالجهات المعنية، سيزداد خطر تراكم المعاملات وتأخر البت فيها، ما قد يخلق اختناقات تؤثر سلبًا على انسيابية التجارة وإمدادات السوق.

 

7- تحدي أثر التأخير على سلاسل الإمداد والأمن الغذائي:

يرتبط العبء التشغيلي الكبير على اللجنة، خاصة في المراحل الأولى، باحتمال حدوث تأخير في معالجة طلبات التمويل والإفراج عنها، وهو ما قد ينعكس مباشرة على جداول الشحن وتدفق البضائع إلى الموانئ والأسواق؛ وفي حالة السلع الغذائية والمواد الأساسية، قد يؤدي أي تأخير ملموس في التمويل أو التخليص إلى اضطراب في سلاسل الإمداد، وتراجع المخزون المتاح، وارتفاع الأسعار نتيجة انكماش العرض، بما يشكّل ضغطًا على الأمن الغذائي الوطني؛ وتتزايد خطورة هذا التحدي في بيئة تعتمد بدرجة عالية على الاستيراد لتغطية احتياجاتها الغذائية والاستهلاكية، وتفتقر إلى مخزونات استراتيجية قادرة على امتصاص الصدمات قصيرة الأجل.

 

8- خطر عودة السوق الموازية وولادة سوق سوداء مضاربة:

إن أي بطء ملحوظ في البت بطلبات تمويل الواردات، لا سيما للمعاملات العاجلة أو السلع ذات الحساسية العالية، قد يدفع المستوردين إلى البحث عن بدائل خارج إطار اللجنة لتأمين النقد الأجنبي؛ هذا السلوك قد يعيد إحياء السوق الموازية التي قد تتقارب أسعارها مع أسعار اللجنة، لكنه في ظروف الضغط والشح قد يتطور إلى سوق سوداء مضاربة، تعمل بأسعار أعلى بكثير وتخضع لعمليات احتكار ومضاربة محمومة؛ نشوء مثل هذه السوق سيقوض قدرة البنك المركزي على التحكم بسعر الصرف، ويفتح الباب أمام قفزات سعرية غير محسوبة، ويؤدي في النهاية إلى تآكل الثقة بالمنظومة الرسمية ككل، فضلًا عن تقليص موارد الدولة الناتجة عن العمليات النظامية.

 

9- التهرب الجمركي (امتدادٌ مباشر لخطر السوق السوداء):

يُعدّ التهرب الجمركي المآلَ العمليّ لأي لجوءٍ لتمويلٍ خارج إطار اللجنة، إذ لا يعقل أن يمول مستوردٌ مشترياته عبر السوق السوداء ثم يمرّرها عبر التخليص النظامي الذي يقتضي إبراز ما يثبت المصارفة عبر اللجنة؛ وعليه تُصبح مساراتٌ كـالتهريب عبر المنافذ غير الرسمية أبو عبر ميناء الحديدة، بديل عملي لتجنّب انكشاف مصدر التمويل وتفادي الرسوم؛ النتيجة المباشرة هي انخفاضٌ في موارد الدولة من الرسوم والضرائب، واتساع فجوة البيانات بين الواقع التجاري والإفصاح الرسمي، بما يُضعف دقة تقدير الاحتياجات وفاعلية السياسات؛ ويتفاقم الخطر حين تتكون شبكات إدخال موازية تستفيد من تفاوت الرقابة بين المنافذ والمناطق، فتخلق أسعارًا ظلّية داخل السوق وتُربك آليات التسعير الرسمية، وتزيد من عدم تكافؤ المنافسة بين الملتزمين وغير الملتزمين؛ بهذا المعنى، يصبح التهرب الجمركي الحلقة المالية التي تغلق دائرة التمويل غير النظامي: فهو يحافظ على سرّية مصدر العملة، ويحوّل خسارة الانضباط النقدي إلى نزفٍ إيراديٍّ مزدوج يطال الخزينة العامة ويقوّض أهداف اللجنة في الضبط والشفافية.

 

10- تحدي تأخر إنشاء اللجنة:

يأتي تشكيل اللجنة بعد أكثر من سبع سنوات من طرح فكرتها لأول مرة عام 2018، حين كانت الظروف أكثر ملاءمة والقدرات المؤسسية للبنك المركزي أفضل، والسوق السوداء لم تتحول بعد إلى القناة الرئيسية لتمويل الاستيراد؛ هذا التأخير جعل اللجنة تبدأ مهامها من نقطة أدنى من الصفر، في بيئة أكثر هشاشة وسوق معتاد على العمل خارج الأطر الرسمية، وفاعلين اقتصاديين رسخوا قنواتهم ومصالحهم وحصانتهم من المراقبة؛ التأخر هنا ليس عرضًا عابرًا، بل تجلٍ لخلل عميق في آلية صنع القرار الاقتصادي، حيث تُهمل المؤشرات المبكرة، وتُؤجَّل القرارات حتى تفقد أدوات التنفيذ، ويُستسلم لضغوط لوبيات المصالح والحسابات السياسية الآنية على حساب المصلحة الاقتصادية البعيدة؛ الأخطر أن من أخّر إنشاء اللجنة قد يكون هو نفسه من يضعف قراراتها اليوم أو يطالبها بنتائج عاجلة من دونتوفير الأرضية اللازمة لنجاحها، ما يجعلها مطالَبة بترميم وضع مختل لسنوات في وقت ضيق، وتحت ضغط توقعات مرتفعة، وهو ما يهدد قدرتها على تحقيق الأهداف المعلنة.

 

سادسًا: السيناريوهات المحتملة لمستقبل اللجنة

يظل مستقبل اللجنة الوطنية العليا لتنظيم وتمويل الاستيراد مفتوحًا على مسارين رئيسيين، تتحدد ملامحهما بقدر ما يتوافر من إرادة سياسية، وإطار قانوني محكم، وقدرة تنفيذية تتجاوز حدود الشعارات والبيانات.

 

السيناريو الأول - النجاح المشروط:

يصبح القرار خطوة فارقة إذا استطاعت اللجنة أن تتحول إلى منصة مؤسسية فعّالة لضبط تمويل الواردات، ودعم استقرار العملة، وتعزيز موارد الدولة؛ ويتطلب ذلك توافر شروط أساسية، في مقدمتها: إطار قانوني واضح يحدد صلاحيات اللجنة ويحمي قراراتها من الطعن أو التعطيل، وأنظمة آلية ومنصات رقمية تختصر زمن البت وتقلل الاحتكاك البيروقراطي، وتنسيق مؤسسي حقيقي بين الجهات التسع الممثلة في اللجنة قائم على تبادل البيانات والثقة المتبادلة، إلى جانب آليات إنفاذ رادعة للمخالفين وسياسات تحفيزية للمستوردين الملتزمين؛ كما أن الشفافية في المعايير، وإصدار تقارير دورية للرأي العام، تمثلان شرطًا حاسمًا لترسيخ الثقة؛ وفي حال تحقق هذه المتطلبات، يمكن للجنة أن تسهم في ترشيد الطلب على النقد الأجنبي، وخفض الضغط على سعر الصرف، وتوسيع قاعدة البيانات التجارية، والحد من التهرب الجمركي والضريبي بما يرفع من موارد الدولة.

 

السيناريو الثاني - الفشل والانحسار:

تتراجع اللجنة سريعًا إلى هامش المشهد إذا غابت الشروط السابقة، أو إذا وقعت في فخاخ التحديات التي سبقت الإشارة إليها، مثل تضارب الصلاحيات والصراعات البيروقراطية بين أعضائها، وضعف الإطار القانوني وغياب أدوات الإنفاذ الملزمة، والتأخر في البت بالطلبات بما يفتح المجال أمام نشوء سوق سوداء للنقد الأجنبي ويحفز التهريب الجمركي، فضلًا عن مخاطر تسييس القرارات أو توظيفها لخدمة مصالح ضيقة؛ وفي مثل هذا المسار، تتحول اللجنة إلى عبء إداري يضاعف من تعقيدات السوق بدل حلها، وتلحق بقائمة الكيانات التي وُلدت وسط حماسة التصريحات ثم تلاشت في بيروقراطية الواقع وصراعاته.

 

وأيًا كان المسار الذي ستسلكه، فإن النتيجة ستظل رهينة التوازن بين وضوح الصلاحيات وكفاءة التنفيذ، وبين متطلبات السوق ومخاوفه، وهو ما سيحدد ما إذا كان القرار نقطة تحول، أم مجرد حلقة جديدة في مسلسل القرارات المؤجلة.

 

سابعًا: الخاتمة

تمثل اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات إحدى أهم الخطوات المؤسسية التي اتخذتها الحكومة في السنوات الأخيرة لمعالجة اختلالات سوق النقد الأجنبي وتمويل الاستيراد، في ظل بيئة اقتصادية منقسمة وضغوط نقدية وتجارية متصاعدة؛ وقد تناولت هذه الورقة القرار الصادر بتشكيل اللجنة من حيث خلفياته وأهدافه وبنيته المؤسسية وصلاحياته، كما حللت فرصه وتحدياته والسيناريوهات المحتملة لمستقبله، وصولًا إلى أبرز النتائج المستخلصة التي تعكس ملامح القوة ومواطن القصور في هذه الخطوة؛ وفيما يلي عرض لهذه النتائج:

 

1- جاء تشكيل اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات استجابة لتدهور فعالية أدوات البنك المركزي وتوسع السوق الموازية والانقسام المصرفي، في ظل تحديات إضافية فرضها تصنيف "أنصار الله" منظمة إرهابية؛ شُكّلت اللجنة برئاسة محافظ البنك المركزي وعضوية جهات حكومية وتجارية ومصرفية، ورغم تنوع التمثيل، يظل غياب القطاعات الإنتاجية، وإمكانية تأثير الرئاسة المباشرة للمحافظ على استقلالية البنك المركزي وفصله بين المهام الاستراتيجية والتنفيذية، من أبرز الملاحظات.

2- تعكس أهداف اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات محاولة للجمع بين ضبط عمليات الاستيراد، والرقابة على مصادر التمويل، وتيسير الإجراءات بما يتناسب مع شح الموارد، والحد من مخاطر التصنيفات الإرهابية، وتشجيع الإنتاج المحلي؛ ورغم وضوح هذه الأهداف من حيث المبدأ، فإن معظمها يظل مرهونًا بقدرة اللجنة على الانتقال من وضع السياسات إلى التنفيذ الفعلي في بيئة منقسمة ومعقدة، بما يتطلب نظام معلومات متكامل، وتعاونًا مؤسسيًا واسعًا، وأدوات رقابية حاسمة، وضمان بدائل رسمية فعّالة تغني المستوردين عن السوق الموازية.

3- يمنح القرار اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات صلاحيات واسعة تغطي الجوانب القانونية والإدارية والفنية، وتضعها نظريًا في موقع سلطة فوق قطاعية؛ غير أن هذه القوة النصية لن تتحول إلى أثر فعلي ما لم تُترجم إلى لوائح إلزامية وآليات تنفيذ واضحة، ويُستكمل تشكيل وحدتها الفنية باعتبارها ذراعها التشغيلي؛ كما أن تداخل اختصاصاتها مع جهات أخرى كالبنك المركزي ووزارة المالية والأجهزة الرقابية يستلزم آلية حاسمة لفض التعارضات وضمان التنسيق، وإلا تحولت اللجنة إلى حلقة بيروقراطية إضافية؛ تفعيل هذه الصلاحيات بشكل سريع وعملي هو الشرط الحاسم لتحويلها من إطار تنظيمي على الورق إلى أداة تنفيذية فاعلة.

4- يمثل قرار تشكيل اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات استجابة عملية لضرورة ضبط سوق الاستيراد والتمويل، ويتيح فرصًا ملموسة لتعزيز الانضباط والشفافية في واحدة من أكثر الحلقات الاقتصادية حساسية؛ أبرز هذه الفرص تتمثل في ترشيد الطلب على النقد الأجنبي وتوجيهه نحو السلع الأساسية، والحد من تقلبات سعر الصرف عبر قناة تمويل موحدة، وبناء قاعدة بيانات وطنية للتجارة الخارجية تدعم صناعة القرار الاقتصادي؛ كما تمنح اللحظة الراهنة فرصة هيكلية مواتية بفعل تزايد إدراك كبار المستوردين لأضرار الفوضى التمويلية، وغياب البدائل المؤسسية المماثلة، إضافة إلى إمكانية زيادة موارد الدولة عبر الحد من التهرب الجمركي والضريبي، واستثمار الدعم الدولي الحالي للإصلاحات؛ نجاح اللجنة في استثمار هذه الفرص مرهون بقدرتها على تفعيل أدواتها بسرعة، وتجاوز القيود البيروقراطية، وترجمة الإصلاحات إلى ممارسات منضبطة وشفافة تعزز الثقة الداخلية والخارجية.

5- رغم ما يحمله القرار من فرص، يواجه تطبيق مهام اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات تحديات بنيوية وعملية قد تقيد أثرها إذا لم تُعالج بآليات واضحة؛ أبرزها ضعف التماسك المؤسسي بين جهات متعددة المصالح، وتعقيدات البيئة السياسية وتعدد مراكز النفوذ، وغياب إطار قانوني ملزم يحدد قوة قرارات اللجنة ويحصّنها من الطعن أو التجاهل؛ كما تمثل مقاومة شريحة من المستوردين المعتادة على قنوات تمويل غير رسمية تحديًا ميدانيًا، يفاقمه الإرث السلبي لتجارب تنظيمية سابقة فشلت بفعل البيروقراطية والصراعات؛ يضاف إلى ذلك العبء التشغيلي الكبير الناتج عن حجم المعاملات المتوقع، وما قد يسببه أي تأخير في التمويل من اضطراب لسلاسل الإمداد وارتفاع للأسعار، خاصة في السلع الأساسية، مع خطر إعادة تنشيط السوق الموازية وازدهار التهريب الجمركي، بما يضر باستقرار العملة وموارد الدولة؛ ويظل تأخر تشكيل اللجنة لسنوات عاملاً مضعفًا لقدرتها على الانطلاق من أرضية مؤسسية قوية، إذ تجد نفسها مطالَبة بإصلاح بيئة منهكة وتلبية توقعات مرتفعة في وقت قصير.

6- يبقى مستقبل اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات مرهونًا بقدرتها على توفير الشروط المؤسسية والقانونية والتنفيذية الكفيلة بتحويلها إلى منصة فعّالة لضبط تمويل الواردات ودعم الاستقرار النقدي وتعزيز موارد الدولة؛ النجاح يتطلب إطارًا قانونيًا واضحًا، وأنظمة رقمية حديثة، وتنسيقًا مؤسسيًا قائمًا على الثقة وتبادل البيانات، إلى جانب آليات إنفاذ رادعة للمخالفين وحوافز للمستوردين الملتزمين؛ أما غياب هذه الشروط أو الوقوع في فخاخ التحديات السابقة، فسيقود إلى تهميش اللجنة وتحويلها إلى عبء إداري جديد يضاعف اختلالات السوق، ما يجعل القرار إمّا نقطة تحول حقيقية أو حلقة جديدة في سلسلة القرارات المؤجلة.

 

وبناء على النتائج السابقة توصي الورقة بما يأتي:

1- تعزيز الإطار القانوني وضبط الصلاحيات: إصدار لائحة تنفيذية مكمّلة تحدد بدقة صلاحيات اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات، وتضمن إلزامية قراراتها أمام جميع الجهات، مع وضع آلية حاسمة لفض التعارضات مع البنك المركزي ووزارة المالية والأجهزة الرقابية، بما يحقق الانسجام المؤسسي ويمنع تداخل الصلاحيات أو تعطيل القرارات.

2- ضمان استقلالية البنك المركزي في صياغة السياسات النقدية: إعادة النظر في رئاسة محافظ البنك المركزي للجنة أو وضع ضوابط واضحة تفصل بين دوره الاستراتيجي في صياغة السياسات النقدية وبين المهام التنفيذية للجنة، بما يحافظ على مهنية البنك واستقلالية قراره النقدي، ويمنع تضارب الأدوار بين الجانبين.

3- تطوير القدرات التشغيلية والبنية التكنولوجية: استكمال إنشاء وتفعيل الوحدة الفنية للجنة كوحدة تشغيلية مزوّدة بكوادر متخصصة وأنظمة معلوماتية متكاملة، إلى جانب إنشاء منصة رقمية موحدة لتمويل الواردات تتيح تقديم الطلبات وتتبعها وربطها آليًا بالبنوك والجمارك والموانئ، مع مؤشرات أداء لقياس سرعة وكفاءة المعالجة.

4- تحقيق الشفافية وتعزيز الثقة مع السوق: اعتماد معايير علنية وواضحة لترتيب أولويات السلع المستوردة، ونشر تقارير دورية تبين حجم التمويل المقدم وتوزيعه حسب القطاعات، مع إشراك القطاع الخاص عبر الغرف التجارية واتحادات المستوردين في مشاورات منتظمة لضمان توافق السياسات مع واقع السوق واحتياجاته.

5- تطبيق آليات ضبط السوق مقرونة بالحوافز: تصميم منظومة متوازنة تجمع بين أدوات الردع الصارمة، مثل الغرامات وسحب التراخيص ضد المخالفين الذين يلجأون للسوق الموازية أو يقدمون بيانات مضللة، وبين حوافز عملية للمستوردين الملتزمين كأولوية في التمويل أو تخفيض الرسوم أو تسريع الإجراءات.

6- إدارة المخاطر التشغيلية وحماية سلاسل الإمداد: وضع خطة استجابة عاجلة لتجنب أي تأخير في تمويل أو تخليص السلع الغذائية والمواد الأساسية بما يحافظ على الأمن الغذائي، مع إنشاء مخزون استراتيجي قصير الأجل للسلع الحساسة بالتنسيق مع القطاع الخاص لتغطية أي فجوات تمويلية أو لوجستية طارئة.

7- استثمار اللحظة الراهنة والدعم الدولي للإصلاحات: توظيف التأييد الدولي الحالي لخطوات الإصلاح عبر الحصول على الدعم الفني والتمويلي لتطوير أنظمة اللجنة وبناء قدراتها المؤسسية، وضمان مواءمة عملها مع المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لتفادي أي انعكاسات سلبية على التجارة الخارجية.

8- تقييم الأداء وربط استمرار الصلاحيات بالنتائج: تحديد إطار زمني لمراجعة وتقييم أداء اللجنة خلال أول 6–12 شهرًا لقياس مدى تحقيقها للأهداف المعلنة، مع ربط استمرار عملها أو تعديل صلاحياتها بنتائج هذا التقييم ومؤشرات الأداء الفعلية، بما يضمن التحسين المستمر وفاعلية الدور المؤسسي.

9- السعي إلى تنسيق مع الجهات الدولية والمانحين لدعم اللجنة فنيًا وتقنيًا، ولتوظيف وجودها كنافذة تنظيمية يمكن البناء عليها في ضبط تدفقات النقد الأجنبي القادم عبر برامج الدعم أو التحويلات.

 

       ابتكار أدوات تنظيمية

 

وفي الختام، يمكن القول إن القرار في جوهره يحمل مقومات التحول إلى محطة مهمة في تطوير آليات إدارة الدولة للقطاعين التجاري والنقدي، إذا ما جرى تفعيله على نحو عاجل وفعّال وضمن إطار من الثقة والتنسيق المؤسسي؛ وتمثل اللحظة الراهنة فرصة نادرة للحكومة لإثبات قدرة مؤسساتها على ابتكار أدوات تنظيمية قابلة للتطبيق حتى في ظل ظروف الحرب والانقسام، غير أن استثمار هذه الفرصة يتطلب تزويد اللجنة بالأدوات والصلاحيات والموارد اللازمة، بما يمكّنها من أداء دورها بكفاءة واستدامة؛ فالمسار الذي ستسلكه اللجنة سيحدد ما إذا كانت ستغدو أداة فاعلة للإصلاح، أم تجربة مؤقتة تنتهي كما انتهت محاولات تنظيمية سابقة من دون الحوثيين أن تترك أثرًا ملموسًا.

 

طباعة